على أيام صدام حسين كان مسعود برزاني زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني يردد ان الحل للعراق يكون بنظام فيدرالي. كان هو يدرك، ومعه المتعاطفون والمتفهمون لحقوق الأكراد، بأن الفيدرالية لن تكون آخر الطريق للأكراد، إنما محطة أساسية باتجاه الاستقلال.

في كانون الثاني (يناير) الماضي والى جانب الانتخابات العامة، صوّت 98% من الأكراد في استفتاء غير رسمي للاستقلال. إن مجرد فكرة استقلال كردستان العراق تثير القلق لدى الدول المجاورة للعراق، لا سيما تركيا التي تتخوف من أن يثير انفصال الأكراد عن العراق المشاعر الوطنية لدى الأكراد عندها، مع معرفتها بأنها لن تستطيع التأثير كثيراً على مجرى التاريخ، فيما يعترف قادة أكراد العراق بأنه من دون دعم دولي، فإن دولة كردية مستقلة لا تطل على البحر لن تكون قادرة على العيش. وفي شهر أيار (مايو) الماضي قال برزاني رئيس الإقليم الكردي لتجمع من حزبه: «يمكنني الآن الذهاب الى البرلمان وإعلان الاستقلال. ولكن عندما لا يدعمنا أحد، فان الإعلان يعرقل الوضع الحالي للشعب الكردي».

بعد سنة تقريباً على هذا التصريح، ومع التطورات التي جرت في العراق والمنطقة، جاء تصريح مسعود برزاني المثير عبر مقابلة مع فضائية «العربية» حيث هدد بتحريك ملايين الأكراد في تركيا، فرد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بتهديد آخر، واضطر جلال طالباني (الرئيس العراقي) الى تقديم الاعتذار من تركيا.

هناك غموض أحاط بالمقابلة، إذ قالت مصادر مطلعة إن المقابلة أجريت مع برزاني في 28 شباط (فبراير) الماضي. لكن جرى بثها بعد ستة اسابيع في السادس من نيسان (ابريل) الجاري.

لقد كان مسعود برزاني باستمرار مدافعاً قوياً عن حق الشعب الكردي كله في تحقيق مصيره، لكنه لم يصل مرة الى التهديد بإشعال النار الكردية، خصوصاً أن الأكراد في العراق اقتربوا حثيثاً من تحقيق حلمهم بالاستقلال.

قد يكون برزاني درس أمرين: القلق التركي من قرب الاستفتاء حول مدينة كركوك، وقرب إجراء الانتخابات التركية الرئاسية في نهاية شهر أيار (مايو)، والنيابية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المتزامنة تقريباً مع استفتاء كركوك.

مع دولة فتية تعيش عصرها الذهبي، فإن برزاني ليس مضطراً لكسب الأعداء، أو للدخول في حرب، ثم انه ليس مضطراً أيضا إلى التحرك بسرعة، إذ أن أيا من الدول المجاورة لا تريد للأكراد أن ينفصلوا، كما أن تركيا تعمل عن كثب مع إيران وسوريا اللتين ستتأثران أمنياً من بروز دولة كردية مستقلة في العراق. وأعلنت إيران أنها على استعداد لتوفير الدعم اللوجستي والعسكري لتركيا في حال قيامها بعمليات داخل شمال العراق. والمشكلة الكبرى أن التوتر الكردي ـ التركي يسبب صداعاً للعلاقة الأميركية ـ التركية. لقد فتح تصريح مسعود برزاني باب المناورات الداخلية التركية بين المؤسسة العسكرية و«حزب العدالة والتنمية» الحاكم. في الثاني عشر من الشهر الجاري قال رئيس الأركان التركي الجنرال يشار بيوكانيت إن قواته بدأت عمليات عسكرية ضد الانفصاليين الأكراد جنوب شرق تركيا، ودعا الى عمليات عسكرية عبر الحدود واصفاً إياها بـ«الإلزامية»، وموضحاً أنها «تتطلب إرادة سياسية».

اللعبة الداخلية التركية واضحة. فرجب طيب أردوغان هو الشخصية السياسية الأكثر شعبية في تركيا، ويستعد حزبه لترشيحه لمنصب الرئيس، فتصبح الحكومة، ومجلس النواب والرئاسة بين يدي «حزب العدالة والتنمية»، فشعرت المؤسسة العسكرية بأن عليها أن تثبت أنها قادرة على التحكم بالسلطة. وفي مقابل أن ترضى برئيس من «حزب العدالة والتنمية»، ترغب المؤسسة العسكرية من حكومة «العدالة والتنمية» أن توافق على عمليات ضد الأكراد، والهدف من ذلك إبراز المؤسسة العسكرية كلاعب أساسي على الساحة السياسية التركية.

ويقول لي مصدر غربي، إنه ما لم يتم التوصل إلى تسوية بين أنقرة وحكومة كردستان الإقليمية في العراق فإن الجيش التركي سيقوم بعمليات محدودة داخل كردستان العراق.

ويضيف: «إن الأكراد العراقيين لا يستبعدون أي هجوم تركي، ذلك أنهم يعيشون أفضل مراحلهم، فلأول مرة لديهم نظامهم السياسي، وقواتهم الأمنية، ومداخيل ثروات ثابتة. ولحماية ما لديهم وجعل وضعهم هذا دائماً، فإنهم في حاجة إلى الدفع المستمر لمزيد من الحكم الذاتي والسيطرة الكاملة على المدينة النفطية كركوك.

ويقول محدثي، إن حكومة كردستان الإقليمية تعتقد بأن في استطاعتها استعمال الهجوم التركي عليها للضغط على واشنطن من أجل ضمان إجراء الاستفتاء على مصير كركوك في وقته المحدد، مقابل موافقة الأكراد على عدم استفزاز الجانب التركي. لكن تركيا التي لا تريد أن يجري الاستفتاء لخوفها من تحكّم أكراد العراق بالمدينة الاستراتيجية ستكثّف من عملياتها العسكرية عبر الحدود، وتزعزع بالتالي الأمن في المنطقة في محاولة لتأخير إجراء الاستفتاء. وستحتار واشنطن في كيفية الإقدام على الاستفتاء، إذا ما اشتعل الوضع الأمني الكردي والسني والشيعي!

لقد سرب الجيش التركي ما مفاده أنه سيحدد عملياته العسكرية في المناطق الحدودية وبأنها ستكون قصيرة، وإذا ما التزم بهذا الإطار يكون ذلك لمصلحة أكراد العراق ومصلحة تركيا الاقتصادية.

كذلك ليس من مصلحة برزاني أن يستعدي أردوغان الذي برهن مع حزبه الإسلامي المعتدل على أنه يحترم صناديق الاقتراع، ويدرك أن السلطة المطلقة بعيدة عن مناله. لذا فإنه يلتزم مبادئ الدولة العلمانية التي وضعها مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك. وهذا الإسلام المعتدل يناسب الدولة الكردية الناشئة في شمال العراق.

إذا أخذنا الأمور من الزاوية الاقتصادية البحتة، نرى أنه من الأفضل للقيادة الكردية ألا تؤلب الأكراد ضد الأتراك. إذ أن كردستان تعتمد اقتصادياً على تركيا. وحسب غرفة تجارة ديار بكر، فإن الصادرات التركية لشمال العراق، وبالذات المواد الغذائية ومواد البناء، ستصل مع نهاية هذا العام إلى حوالي 5 مليارات دولار. ومنذ عام 2003، وقّعت شركات البناء التركية عقوداً بقيمة ملياري دولار.

وقد بنت شركة تركية «القصر الرئاسي» الذي يقيم فيه مسعود برزاني في أربيل، كما أن الشركات التركية هي التي بنت شبكة التلفزيون الكردية، والمطارات الدولية والجامعات، وقد جنى رجال الأعمال الأتراك الذين على علاقة بالطبقة السياسية في أنقرة مكاسب وعقوداً كثيرة في منطقة كردستان التي يسيطر عليها برزاني. كما أن شركة ماك ـ يول جنكيز، التي تملكها عائلة شبي المقربة جداً من رجب طيب اردوغان، فازت بعقد مطار أربيل الدولي وتبلغ قيمته 240 مليون دولار. ومن المتوقع أن تنال الشركات التركية حصة الأسد من المشاريع التي ستقام في كردستان خلال السنوات الثلاث المقبلة والتي تبلغ قيمتها 15 مليار دولار.

من جهة أخرى، فان صادرات نفط مدينة كركوك التي ستكون المصدر الأساسي لمدخول السلطات الكردية ستمر عبر أنبوب النفط الذي يعبر الأراضي التركية ويصب في مرفأ جيهان. وتشير التخمينات إلى أن جنوب كردستان يضم 45 بليون برميل نفط ومائة تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي.

وعلى مر السنوات الماضية، خصوصاً في التسعينات ارتبط برزاني بعلاقات قوية مع تركيا، درت عليه مئات الملايين من الدولارات من الشركات التركية التي كانت تنقل النفط العراقي عبر الحدود التركية وتدفع ضريبة نقل للحزب الديموقراطي الكردستاني.

إن الدولة الكردية التي لا تطل على أي بحر، يمكن أن تستفيد كثيراً إذا ما توفرت لها نوايا تركية طيبة، وفي الوقت نفسه يمكن أن تتضرر كثيراً إذا ما غابت تلك النوايا. وما يقلق تركيا، يجب أن يقلق المسؤولين الأكراد في العراق أيضا، إذ يتبين أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ليست لديه استراتيجية واضحة للانتصار في العراق، وتشعر تركيا بقلق إذا ما أقدم الكونغرس الأميركي على اتخاذ قرار بسحب القوات الأميركية وبسرعة من العراق. قد يقول الأكراد، إن الرأي العام الأميركي يقف مع حق تقريرهم لمصيرهم، ثم إنه لا يمكن لأميركا التي تسعى لاستقلال إقليم كوسوفو أن تقف ضد استقلالهم، لكن يجب أن يلفتهم انطلاق بعض الدعوات لإعطاء الصرب في إقليم كوسوفو الحق بتقرير مصيرهم أو الانضمام إلى صربيا، وهذا قد ينسحب على التركمان في كركوك. وقد يقول المسؤولون الأكراد أن منطقتهم يُشار إليها كاحتمال أن تصبح قاعدة أميركية في المنطقة، إنما عليهم الانتباه إلى أن هذا لا يعني أن المصالح الأميركية هي نفسها المصالح الكردية. إن لأميركا مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وقد تتأثر بالمواقف التركية والعربية التي تعارض حتى الآن استقلال كردستان.

من حق الشعوب أن تنال استقلالها بغض النظر عن الدول التي تحيط بها، والشعب الكردي رغم كل ما تعرض له، جمعته دائماً وحدة الهدف. وهو يتميز عن اللبنانيين بأنه موحد، لذلك إذا ظلت قيادته تسير بحكمة، فان وجهتها الاستقلال لا محالة. وكان برزاني وطالباني أظهرا حكمة لافتة، عندما تركا الحكومة العراقية تحاكم صدام حسين وتصدر عليه حكم الإعدام وتنفذه انتقاماً لقتلى مدينة «الدجيل» الشيعية، ولم ينبسا ببنت شفة عن الضحايا الأكراد الذين فاقوا عشرات الآلاف بسبب مجزرة الأنفال، ومحرقة حلبجة. لقد فكرا بأن يتجنبا انتقام العرب لاحقاً من الأكراد. هذه الحكمة مطلوبة الآن في التعامل مع تركيا، للمحافظة على استقلال كردستان لاحقاً، وحماية الفورة الاقتصادية التي تعيشها الآن، وسوف تحمل إليها الآلاف من السياح والمشاريع غداً.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)