لم يعد هناك مكان لمعادلة «لا غالب ولا مغلوب» في أي من الساحتين العراقية واللبنانية، إذ أن ما يتحكم بالأوضاع والأذهان الآن هو مبدأ «الهزيمة والانتصار» بكل ما يعنيه من مواجهات واستحقاقات لا سيما في بلدين تلعب فيهما الميليشيات المسلحة أدوار التكامل مع الحكومة كما في ميليشيات «جيش المهدي» الذي يقوده مقتدى الصدر، والتنافس مع الدولة كما في حالة «حزب الله» الذي يقوده السيد حسن نصرالله. أما الجهاديون والتكفيريون والانتحاريون، فإنهم يتوهمون أنهم فوق الدولة والميليشيات وينظرون الى معادلة «النصر والهزيمة» من منظور إلغاء الآخر بتفجير النفس. هؤلاء لا يفكرون بمقتضيات التعايش أو من زاوية «الأكثرية والأقلية»، لأن برنامجهم السياسي هو التدمير.

لو كانت الحروب في العراق ولبنان محلية قطعاً، لربما كان من الاسهل توقع نتائجها. أما وأن الولايات المتحدة قد تورطت في حرب العراق وورطت العراق في حرب طائفية وفي حرب الإرهاب، فإن ما يقوله الآن «عباقرة» تلك الحرب ملفت. فهم يبلغون الشعب الأميركي أن حرب العراق كانت من أجل ازالة حكم السنّة في العراق واستبداله بحكم الشيعة. ويقولون إن لا خيار أمام الشعب الأميركي سوى القبول بهذا الواقع مهما بدا «بشعاً»، لأن «الجنية خرجت من القمقم»، حسب تعبير أحدهم، ولا عودة عن ذلك بأي شكل كان. هؤلاء يبلغوننا جميعاً أخيراً أن الحرب الأميركية في العراق كانت من أجل تفجير النزاع الطائفي بهدف اسقاط «السنّة العرب»، زاعمين أن إيران لا علاقة لها على الاطلاق بهذا النزاع، وأن «الانتصار» في العراق يقتضي أن يتمكن المنتصر الذي يتولى الحكم الآن من «املاء» شروطه على المهزوم.

مثل هذه الحملات التي يقودها رجال يزعمون الفهم والمعرفة والرغبة في قيام الديموقراطية وصون حقوق الاقليات، إنما يقدمون الطائفة الشيعية قرباناً في حروب التكفيريين والجهاديين. كذلك يدفعون هذه الطائفة نحو الانعزالية ونحو تفوق مصطنع يدمر طموحات الأجيال الشابة بالانتماء الطبيعي الى البيئة المحلية بدلاً من التقنين المتعمد في مرتبة الحرمان الدائم والضعف والعجز عن الانتماء باملاء من قيادات ميليشيات محلية من جهة، وبمغامرات بائسة لرجال في مواقع النفوذ الأميركي يفجرون عقداً شخصية.

النقاش والحديث والخلاف في الصفوف الأميركية، الشعبية والحكومية والإعلامية، لم يتطرق حتى الآن إلى الأسباب الحقيقية وراء حرب العراق، وإنما دار معظمه في حلقة «لو كنت أعرف، لما فعلت». هذه الحرب دخلتها الولايات المتحدة بذرائع اختلقتها الإدارة الأميركية وبتبريرات زئبقية تراوحت بين ادعاءات امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وادعاءات قيام علاقة بين نظام صدام حسين وإرهاب 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001. ولو كان الشعب الأميركي يدرك أن هذه الحرب أتت من أجل إطاحة نظام صدام حسين، أو من أجل نقل زمام الحكم في العراق من السنّة إلى الشيعة، لما وافق على هذه الحرب.

الآن يأتينا بعض أولئك الرجال الذين يتباهون بأنهم وراء حرب العراق نتيجة تأثيرهم على أمثال نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، يأتوننا بمنطق «الهزيمة والانتصار». يقول هؤلاء إن حرب العراق حُسمت بانتصار الشيعة في العراق وتوليهم الحكم للمرة الأولى في تاريخهم، وان الأميركيين لن يتمكنوا الآن من قلب معادلة الحاق الهزيمة بالسنّة العرب تحت أي ظرف كان. يدّعون ان هناك اجماعاً على أن السنّة لم يخسروا بغداد فحسب، وإنما العراق بكامله، وان الطبقة الوسطى من السنّة العراقيين خرجت من العراق مهزومة، وان المصالحة أو التعايش يجب أن يقوما على أساس معادلة مَن هو المنتصر ومَن هو المهزوم.

يقول هؤلاء إن اختصار ما حدث هو أن هذه «الحرب العظيمة» مكنت شيعة العراق من أن يقولوا للسنّة: «أخذنا منكم الحكم، واعطيناكم اللطم». هؤلاء يتحدثون بلغة مزيج من «نحن» الأميركية و «نحن» الشيعية، متعمدين إبعاد القومية العربية عن الشيعة في خطابهم السياسي مع تعمد اقتران الإشارة الى السنّة بالقومية العربية بهدف التحريض ضدهم في الفكر الأميركي.

هؤلاء هم فلاسفة تأجيج الصراع الطائفي في العراق بمزاعم تمكين شيعة العراق من ممارسة حقهم في السلطة كأكثرية، لكنهم في الواقع لا يخدمون العراق ولا شيعة العراق. هدفهم هو تقديم الخدمة الكبرى إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بصفتها البلد الذي يضم اكبر نسبة من الشيعة وتربطها علاقات وثيقة بـ «جيش المهدي» في العراق و «حزب الله» في لبنان.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هؤلاء الرجال عُرف عنهم تكراراً عدم تحديهم لإسرائيل ولو لمرة في تاريخهم السياسي والفكري والأكاديمي. كما عُرف عنهم كرههم البالغ لكل ما هو فلسطيني بصورة تلقائية على رغم جذورهم العربية - العجمية. إنهم لا يمانعون في تقسيم العراق أو تفتيته طالما أن ذلك يخدم إسرائيل وإيران معاً، لأن عقدة هؤلاء الرجال هي كرههم العميق لكل ما هو عربي.

خلاصة المنطق الذي يتقدم به هؤلاء الرجال الى الرأي العام الأميركي المثقف على صفحات الصحف وفي الجلسات المغلقة هي الآتي: ان حرب العراق ادت الى هزيمة السنة العرب وان على المنهزمين الإقرار بالهزيمة، وعلى المنتصرين إملاء الشروط والظروف لقبول المهزومين في معادلة التعايش بلا نقاش أو مساومة.

هذا المنطق خطير لأنه لا يطالب كشرط مسبق بالاعتراف والإقرار بالهزيمة فحسب، وانما يقوم على معادلة تركيع المهزوم واملاء شروط المنتصر عليه. وهو منطق مخيف لأنه لا يسعى وراء المصالحة وانما وراء الانتقام. ويبني المستقبل على ماضي البغض والنقمة.

انه منطق التوريط الذي اعتمده هؤلاء الرجال الذين وصلوا الى السلطة الاميركية عن طريق كراهية الذات واعفاء اسرائيل من المحاسبة بوصفه وسيلة القبول بهم في الساحة الأميركية. انه منطق الانتقام الذي يورط حتى من يزعم بعض هؤلاء الرجال انه يدافع عنه، وهو في هذه الحال، شيعة العراق ولبنان.

القاسم المشترك بين هؤلاء وبين رجال «القاعدة» وأمثالها من الجهاديين والتكفيريين هو ان منطقهم المشترك - المتضارب هو تأجيج الطائفية كوسيلة للاستيلاء على الحكم. القاسم المشترك بين هؤلاء الرجال الذين يعملون في القنوات السياسية والاكاديمية وبين قيادات الميليشيات من أمثال مقتدى الصدر وحسن نصرالله هو ارتهان الطائفة الشيعية لغايات سلطوية وليس من أجل مستقبل شبابها. انه منطق الانتقام وتجيير القاعدة الشعبية لتقديم خدمات لطموحات الحكم المحلي وحروب الهيمنة الاقليمية والطائفية.

سنة العراق سيحفرون دهاليز هزيمتهم الدائمة إذا لم يتخذوا القرار الضروري بمواجهة الجهاديين والتكفيريين وإبلاغ قيادات «القاعدة» وأمثالها ان وسائلهم الدموية مرفوضة شعبياً ونخبوياً. فلا بد من الطلاق التام مع إجرام هذه المجموعات لأن في هذا الطلاق الوسيلة الوحيدة لإمكانية التعايش بالقدر المستطاع تحت هذه الظروف الطائفية البشعة.

شيعة العراق سيعيشون في عقلية الحصار الدائم ما لم يبلغوا رجال النظريات السياسية الكريهة في واشنطن ورجال الميليشيات العراقية المدعومة من طهران ان خيار شيعة العراق هو فتح صفحة جديدة تبنى على الظروف الجديدة المتاحة وليس التسلح بميليشيات لفرض معادلة الانتصار وإجبار المهزوم على التنازلات.

معادلة «لا غالب ولا مغلوب» ليست واقعية، سيما عندما تصل الأمور الى ما وصلت اليه في العراق أو في لبنان. فليس هناك الآن أي احتمال للتوافق بين المعسكرين الأساسيين في لبنان: الاكثرية الداعمة للحكومة والدولة، والمعارضة الساعية لإسقاط الدولة لصالح «حزب الله» الذي يكنّ الولاء الأول لايران بذريعة حماية الطائفة الشيعية في لبنان. غير أن الطائفة الشيعية في لبنان هي لبنانية أولاً وأخيراً. ولأن مصيرها على المحك، تقع على هذه الطائفة مسؤولية فك ارتهان «حزب الله» لها كأداة من أدوات خدمة المصالح الإيرانية والسورية بذرائع ومبررات مختلقة. المعادلة التي يتطلبها لبنان والعراق تقع بين «لا غالب ولا مغلوب» وبين «المنتصر والمهزوم». فالوضع يتطلب الحاق الهزيمة بالميليشيات في لبنان والعراق، سيما تلك التي تعمل على الحلول مكان الدولة سواء بالتكامل أو بالمعارضة، وأبرزها «حزب الله» في لبنان و «جيش المهدي» في العراق. لكن هذه الهزيمة يجب ألا تعني، ويجب الا تتطلب الاخضاع والانتقام.

الحسم القاطع في معادلة «الهزيمة والانتصار» يجب ان يكرس القضاء على الارهابيين والتكفيريين والجهاديين الذين لا يريدون سوى التدمير والنقمة والانتحار لغايات وهمية أو نرجسية أو سلطوية لا علاقة لها ببناء الغد للأجيال المقبلة. فالانتحار عند هؤلاء هو نزهة مريضة الى نحر الابرياء، شيوخاً وأطفالاً، بادعاءات محاربة الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها اسرائيل.

الولايات المتحدة بدورها يجب ان تدقق في معادلة «الانتصار والهزيمة» لا سيما أن مغامرتها في العراق لن تأتي عليها بالانتصار مهما حجبت عن الارهابيين اي قدر من النصر. وحتى ان كانت المغامرة حقاً من أجل بروز القوة الشيعية في وجه الهيمنة السنية التقليدية، على إدارة جورج بوش ألا تزيد من توريط الولايات المتحدة في هذه الحرب الطائفية، فلقد وصلت الحرب الآن الى مرحلة هدر أرواح القوات الأميركية من أجل المحافظة على شراكة بين حكومة نوري المالكي وبين ميليشيا مقتدى الصدر الذي يحارب القوات الاميركية في العراق.

انسحاب القوات الأميركية آت ولن يفيد أي عراقي أن تستعر حرب العراق على أساس «الهزيمة والانتصار» في الحرب الطائفية. إن هذه المعادلة يجب أن تقتصر على المعركة بين حزب التدمير وحزب البناء. بين أصحاب عقلية استباحة كل شيء من أجل الانتقام بشتى ذرائعه وأنواعه، وبين أصحاب عقلية الإصرار على التوافق الوطني بين أهل العراق على أسس جديدة.

فليس المطلوب طغاة يحلون محل طغاة. المطلوب ألاّ تتحكم الميليشيات بالحكومة في العراق، لأن في ذلك اسقاط للدولة. وواجب الحكومة العراقية هو أن تستغل الفرصة الأخيرة المتاحة لبناء دولة العراق الجديد قبل مغادرة القوات الأميركية، وإلا ستكون طرفاً رسمياً في الحرب الطائفية التي يشنها الطرفان، السنّي والشيعي، لتدمير الدولة ودفن إمكان التعايش والتوافق في العراق.

إن معادلة «لا غالب ولا مغلوب» غير واردة في العراق، لأن العراق يتطلب الآن أن يكون الغالب هو الدولة، وأن يكون المغلوب الميليشيات بشتى أنواعها وانتماءاتها.

كذلك الأمر في لبنان، حيث لا مجال لمعادلة «لا غالب ولا مغلوب» في المعركة بين الدولة وبين الميليشيات، اذ أن أحدهما يلغي الآخر. هكذا هو الأمر بكل بساطة. وهذا ما أوضحه الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في رفضه القاطع للسماح للدولة، بجهازها الحكومي والقضائي، ان تنشئ المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان. فإما أن تعلو الدولة على الميليشيات وتكون لها فقط وحصراً حقوق وأدوات ممارسة السيادة، أو أن تتحكم الميليشيات وتجر البلاد إلى حروب طائفية وأهلية واقليمية، لأنها في واقع الأمر تريد انتزاع الحكم والسلطة عسكرياً بتدمير متعمد للعملية الديموقراطية المدنية في لبنان.

حتى عند الإصرار على استبعاد معادلة «لا غالب ولا مغلوب»، هناك شبه بُعد مدني ينطلق من لغة غير عسكرية، عكس استخدام منطق ولغة «الهزيمة والانتصار»، التي لها دائماً طعم السلاح والتركيع والاخضاع.

لبنان والعراق لا يحتاجان أولئك الرجال الذين يرفعون رايات الانتقام وتلقين الدروس بدموية وبواسطة الميليشيات. منطق هؤلاء الرجال يجب أن يُغلب ليكون الغالب دولة تحمي الشعب وتبعده عن الطائفية القبيحة وشعباً يبلغ جميع الناشطين في الحروب الطائفية ان حاميه الحقيقي في نهاية المطاف هو الجيش والدولة وليس الميليشيات.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)