كان اجتماع الجامعة العربية في القاهرة أمس غير مسبوق في انفتاحه على إسرائيل، حيث عرض لقاء ممثّلين عن إسرائيل لتوضيح مبادرة السلام التي أعادت الجامعة التصديق عليها في اجتماعها في الرياض في 28 آذار الماضي. يلقي الحدثان الضوء على التغيّر الكامل في الأنموذج الذي حدّد لوقت طويل الصراع الإسرائيلي - العربي.

منذ إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 والجهود التي بذلتها جيوش بلدان عربية عدّة لإحباط ولادتها، إلى ما بعد حرب 1967 بوقت طويل حيث سيطرت إسرائيل على كلّ فلسطين، كان الجزء الأكبر من العالم يرى في إسرائيل ضحيّة وساعية إلى السلام على السواء. أمّا البلدان العربية فكانت تُعتبَر مسبِّبة للحرب ورفضيّة. وقد تعزّز هذا الأنموذج من خلال "لاءات الخرطوم الثلاث" عندما تعهّدت البلدان العربية عام 1967 أنّه لن يكون هناك لا سلام ولا مفاوضات ولا اعتراف بالدولة اليهودية.
واستمرّت هذه الصورة عن رفض العالم العربي الكامل لإسرائيل إلى الثمانينات، حتّى بعدما أصبح واضحاً أنّ رئيسة الوزراء غولدا مائير تجاهلت مبادرات السلام التي أطلقها الرئيس المصري أنور السادات، والتي دفعت مصر ثمنها باهظاً في حرب تشرين الأول 1973. ولم يؤدِّ التغيير في المواقف العربية من الدولة اليهودية المضمَّن في خطّة الملك فهد التي أقرّتها الجامعة العربية عام 1981، الى إعادة نظر في تلك الصورة في إسرائيل أو في الغرب.

منذ ذلك الوقت - لا سيّما في أعقاب اتفاقات أوسلو عام 1993 والقمم الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) التي استضافتها بلدان عربية عدّة - تلاشى إلى حدّ كبير الرفض العربي لشرعيّة إسرائيل. قبل وقت طويل من المبادرة السعودية عام 2002، سعى مسؤولون عرب رفيعو المستوى إلى إقناع ياسر عرفات، الرئيس السابق ل"منظّمة التحرير الفلسطينية"، بقبول شروط السلام التي عرضها إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، في كمب ديفيد عام 2000.

ثم جاءت المبادرة السعودية التي أعلن فيها البلد الأكثر محافظة بين البلدان العربية والأمير الأكثر محافظة بين الأمراء السعوديين، ولي العهد الأمير عبدالله، أنّ السعودية مستعدّة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في شكل كامل والترحيب بسفارتها وعلمها في عاصمتها ما إن تُنهي إسرائيل نزاعها مع الفلسطينيين، وهو عرض وافقت عليه كلّ البلدان العربية.
كان الردّ الإسرائيلي على هذا التغيير الكبير في النفسيّة والسياسة العربيّتَين أسوأ من الرفض: لامبالاة تامّة وكأنّه لم يكن لهذا الانعطاف الجذري في التفكير العربي أيّ معنى بالنسبة إلى إسرائيل ومستقبلها في المنطقة.

رفض رئيس الوزراء إيهود أولمرت وحكومته من دون تفكير كلّ عروض السلام العربية سواء كانت من السعودية أو سوريا أو الجامعة العربية أو محمود عبّاس أو الرئيس الفلسطيني. في الأعوام السبعة الماضية، صاغت سياسات أرييل شارون وإيهود أولمرت أنموذجاً جديداً أصبحت إسرائيل الطرف الرفضي فيه. استُبدِلت لاءات الخرطوم الثلاث بلاءات القدس الثلاث: لا مفاوضات مع سوريا، لا قبول للمبادرة العربية، وفوق كلّ شيء، لا محادثات سلام مع الفلسطينيين.

يوجّه أولمرت ومساعدوه مهاراتهم الديبلوماسية نحو إيجاد مزيد من الذرائع الملتوية لإعاقة كلّ فرصة لصنع السلام، بينما يُقدّمون أنفسهم في صورة محبّي السلام الذين يبحثون عن عرب "عقلاء" مؤهّلين ليكونوا شركاء في السلام. إلاّ أنّ هدفهم هو الحؤول دون انطلاق عمليّة سلام تفرض على إسرائيل وقف توسيع المستوطنات ووضع حدّ لجهودها الهادفة إلى قطع القدس الشرقية عن الداخل الفلسطيني.

نجح هذا الخداع لبعض الوقت، وربّما لا يزال يُقنِع الرئيس بوش ومن يعتمد عليهم لفهم الشرق الأوسط - أولئك الذين أعطونا حرب العراق - لكنّه انكشف لدى الجزء الأكبر من العالم، بما في ذلك لدى عدد كبير من الأميركيين. فالعديد من كتّاب الأعمدة الخاصّة الأميركيون الذين اقتنعوا بالأنموذج القديم أو تفادوا الخوض فيه خشية وصفهم بالمعادين لإسرائيل، يرفضونه الآن.

خسرت إسرائيل المناقبيّة العالية. ولن تستعيدها إلاّ عندما ينتخب مواطنوها حكومة تفهم أنّ ثمن السلام - الذي وافق الطرفان على خطوطه العريضة في محادثات طابا بعد فشل مفاوضات كمب ديفيد - أقلّ بكثير من ثمن رفضها الحالي.
لا شكّ في أنّ المناقبيّة العالية لا تضمن الأمن بالضرورة. لكن بالنسبة إلى بلد غربي - يقع في قلب العالمَين العربي والإسلامي - أفاد من دعم أميركي وغربي غير متكافئ إلى حدّ كبير لأنّه اعتُبِر بمثابة تجسيد للمناقبية، ستكون خسارة هذه المناقبيّة مدمِّرة إلى أقصى الحدود لأمنه في المدى الطويل.

عن "فايننشال تايمز"
مدير مشروع الولايات المتّحدة - الشرق الأوسط وأستاذ أبحاث في برنامج السير جوزيف هوتونغ للشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن

مصادر
النهار (لبنان)