بعد حوالي العام على اعلانها تخصيب 5،3% من اليورانيوم كافية لانتاج الوقود النووي، أعلنت إيران في احتفالها باليوم الوطني للتكنولوجيا النووية الانضمام إلى الدول المنتجة للوقود النووي على مستوى صناعي، لتلوح بذلك بالانسحاب من معاهدة الحد من الانتشار النووي. ومما لا شك فيه، إن هذه الخطوة أثارت استياء وغضب الولايات المتحدة التي سارعت إلى اتهام إيران بأنها فرطّت في “فرصة ضائعة” على طريق التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة النووية. ولم تكن واشنطن تفوت هذه الفرصة إلا لتوجيه تهمة جديدة لطهران، ألا وهي تحدي دعوة المجتمع الدولي للتخلي عن تخصيب اليورانيوم.

إن لهجة الولايات المتحدة هذه المرة لم تتسم بالحدة مثل المرات السابقة التي صعدت فيها مع إيران، ما يعني أن واشنطن تحاول أن تمسك العصا من الوسط. فليس أمام ادارة الرئيس الأمريكي جورج بوش سوى حلين: الأول دبلوماسي عبر التفاوض والحوار، والثاني: تصعيد عسكري قد يؤدي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها.

ومن هنا يمكن فهم رسالة واشنطن لطهران عقب اعلانها التوسع في انتاج الوقود النووي. وما يؤكد ذلك هو بيان الخارجية الأمريكية الذي خاطب المعتدلين الإيرانيين وجاء فيه: “ان النهج الحالي الذي تعتمده طهران لا يفيد الشعب الإيراني”. وتمنى البيان على القيادات الإيرانية “العقلانية” ان تعيد حساباتها، معتبرا أن هناك مخرجا للأزمة وبديلا تفاوضيا في حال اختار الإيرانيون اتباعه.

هذه اللهجة الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية تعكس ملامح مصالحة مستقبلية تقودها كوندوليزا رايس ضد معسكر المغامرات العسكرية الطائشة التي ميزت عهد رئاسة بوش، وهو المعسكر الذي يقوده نائب الرئيس ديك تشيني. فإيران تقع في قلب معركة غير محسومة لم تعد سرية بين معسكر الخارجية بقيادة رايس ومعسكر المحافظين الجدد بزعامة تشيني. ويبدو أن فرص رايس أقوى الآن بعد الاطاحة بوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد أحد الصقور المتشددين في معسكر تشيني، واحتمالات نجاح رايس في اقناع الرئيس بوش بوجهة نظرها تبدو أرجح في الوقت الراهن، ربما لتأثيرها في بوش وثقته بها، وربما لأن الرئيس الأمريكي حصد حصيلة وفيرة من الانتكاسات والاخفاقات داخليا وخارجيا بسبب سياسات ونصائح تشيني ورامسفيلد.

ومبررات رايس لاقناع بوش بتبني سياسة جديدة تجاه إيران بعيدة عن التصعيد، ليست معقدة وانما في غاية البساطة، فمنطقها هو أن كل سياسات المواجهة التي جربتها الولايات المتحدة مع إيران منذ الثورة الاسلامية في عام 1979 لم تنجح، وكذلك العقوبات التي فرضت على طهران لم تؤت ثمارها المرجوة.

والتهديد بالحرب لا يخيف إيران بقدر ما يرعب الولايات المتحدة نفسها بسبب العواقب والتطورات المحتملة. كما أن الحقائق على الأرض سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين تؤكد أن واشنطن هي التي تحتاج إلى إيران إن أرادت الوصول إلى أية تسوية سياسية. وما دام الانسحاب الأمريكي من العراق مستحيلا من دون صفقة مع إيران لترتيب الأوضاع، فلا مفر من محاورة هذا العدو العنيد. هذه هي الخلاصة التي من المؤكد أن رايس بذلت جهدا كبيرا لكي يستوعبها بوش.

وثمة دراسة أمريكية لمجلة فورين أفيرز تؤيد منطق رايس في التعامل مع إيران. وتستخلص الدراسة بعد عرضها جملة من المعطيات، ضرورة ترويض القوة الإيرانية المتنامية ونزع مخالبها النووية. ولن يتحقق ذلك الا اذا تخلت واشنطن عن التلويح بالقوة العسكرية وفرض شروط مسبقة للتفاوض. والأهم من ذلك ان تعترف بحقائق مريرة منها أن إيران قوة اقليمية لها نفوذها في محيطها، وأنه من غير الممكن اسقاط نظامها.

وعسكرياً، فإن ما يجري على أرض الواقع يدحض امكانية تنفيذ ضربات عسكرية أمريكية لإيران، وذلك نظرا لوجود سلسلة من العقبات والمعوقات على الصعيد التقني. فعلى سبيل المثال، لا يملك سلاح الطيران الأمريكي معلومات دقيقة لمعرفة المواقع الحقيقية لمنشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية، في الوقت الذي ثبت فيه عجز التجسس بالأقمار الصناعية عن القيام بهذه المهمة. كما يعي استراتيجيو البنتاجون ووزارة الخارجية الأمريكية أن أي عمل عسكري ضد إيران ستسفر عنه نتيجتان مباشرتان، تكمن الأولى في حشد وتعبئة كل الشعب الإيراني خلف الرئيس محمود أحمدي نجاد في الوقت الذي تخاطر فيه التيارات المعتدلة بالزوال من المسرح السياسي بالاضافة إلى استحالة حدوث أي امكانية لتغيير النظام الإيراني.

وتكمن النتيجة الثانية المباشرة في حال شن هجوم أمريكي في انسحاب إيران من معاهدة حظر انتشار السلاح النووي المعروفة باسم “TNP “، وطرد أو استبعاد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ان أغلب الخبراء العسكريين يرون عدم جدوى توجيه أي ضربة عسكرية أمريكية الى إيران في الوقت الحالي، اذ ان المواقع النووية الإيرانية متعددة ومتباعدة جغرافيا ومحصنة بالدفاعات الجوية، والوضع الحالي ليس كما كان عليه الحال في عام 1981 عندما قامت 8 طائرات مقاتلة من طراز (إف 16) “الاسرائيلية” بتفريغ حمولتها من القنابل على قبة المفاعل النووي العراقي (أوزيراك) والذي يقع بالقرب من بغداد. كما انه لايمكن مقارنة إيران بالعراق تحت اي ظرف من الظروف، فالعراق قبل احتلاله نفذت ضده حرب استنزافية لمدة 12 عاما تم خلالها تدمير البنية العسكرية العراقية بالكامل، كما تم تأليب الرأي العام العراقي على قادته من خلال تنفيذ حصار اقتصادي وغذائي جعل الشعب العراقي يسخط على حكومته، والتي جعلته تحت خط الفقر وبعد كل ذلك شنت الولايات المتحدة حربها التي فسرها البعض بأنها كانت نزهة للقوات الأمريكية في الأراضي العراقية، ولو كانت الولايات المتحدة متأكدة أنه لن يحدث لها أي خسائر، لكانت أكملت حربها ضد العراق عام ،1991 ولكنها كانت تعلم بالعواقب التي ستجنيها..ولذا، فقد نفذت السياسة السابقة.

إذن.. فما سبق يؤكد أن المناورات الأمريكية في الخليج، ورغم ضخامتها وقوتها لن تكون في الوقت الحالي أكثر من توجيه رسالة إلى الشعب الإيراني وليس القيادة الإيرانية، وهي تأتي في إطار حرب نفسية ولن تستثمر في تنفيذ ضربة عسكرية لإيران في الوقت الحالي. ويبدو أن ارسال المزيد من التعزيزات العسكرية الأمريكية الاضافية إلى الخليج إنما يندرج في اطار التلويح بالعصا.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)