ليس هناك من يدفع ثمناً أغلى مما يدفعه المواطن المنتمي للطبقتين الاجتماعيتين الوسطى والفقيرة، فإذا رغبت أية حكومة بإجراء إصلاحات اقتصادية فعلى هذا المسكين أن يتحمل ما أصبح يسمى بـ(آلام الإصلاح) التي لا مفر منها..
وإذا كانت الحكومة تريد أن تحافظ على كيان الدولة الاقتصادي القائم على آلية السوق الحرة، فهذا النوع البشري مطلوب منه كذلك أن يصمت ويعمل ويرضى بما تقذف له هذه السوق من فتات الرأسمالية وحرية السوق..
فيما على الطرف الأخر تجري الرياح بما تشتهي السفن، فالطبقة الأولى الميسورة تتعاظم مكاسبها في أي مناخ يسود وتحت أي منهج اقتصادي يطبق.. نفوذاً وإيرادات مالية وإعفاءات لا حصر لها..

في بلدنا وعلى الرغم من أهمية الإصلاحات المالية التي أجرتها وزارة المالية خلال السنوات الثلاث الماضية والصدى الطيب الذي لقيته من رجال الأعمال والوسط الاقتصادي، إلا أن هذه الإصلاحات لم تكن لدى المواطن سوى تبويب جديد للرسوم والضرائب المبعثرة تشريعياً وقانونياً خلال العقود الماضية مع إشارات أخرى لا يمكن تجاهلها من باب الموضوعية كإلغاء الازدواج الضريبي مثلاً.. الخ.

من البداية
ينظم عملية فرض الضريبة والتكليف مجموعة من القوانين والتشريعات التي يعود أحدثها للعام2003 بعد حملة إصلاح السياسة الضريبية والمالية، ويمكننا هنا الإشارة إلى أبرز تلك التشريعات، حيث يتصدرها (قانون ضريبة الدخل 34 لعام 2003 وتعديلاته، ثم ضريبة المتعهدين والمقاولين والشركات الأجنبية، ضريبة تجارة العقارات والأرباح الرأسمالية، ضريبة ريع وتأجير العقارات، رسم الإنفاق الاستهلاكي، رسم الطابع المالي، رسم التركات والوصايا والهبات، المصارف الخاصة وشركات التأمين ومكاتب الصرافة.. الخ).

تحدد هذه القوانين والمراسيم التشريعية الرسوم والضرائب الواجب دفعها للخزينة عن الفعاليات والأنشطة والطلبات التي تجري على الأراضي السورية، وعلى الرغم من أن جزءاً مهما من هذه المطارح الضريبية تفرض على الوسط التجاري والصناعي والسياحي وغيرها من الأنشطة الاقتصادية مع بعض الإعفاءات، إلا أن المواطن أو المستهلك يدفع ثمنها دوماً، وتبعاً لذلك يمكننا تقسيم هذه الرسوم والضرائب إلى قسمين تبعاً لجهة تأثيرها على المواطن:

الشريحة الأولى: وتضم الرسوم والضرائب التي تفرض بشكل مباشر على المواطن المنتمي لمختلف الطبقات والتي تترك انعكاسات على حياة المواطن صاحب الدخل المحدود، وأبرز هذه الضرائب ضريبة الدخل على الرواتب والأجور، ضريبة الأرباح الصافية الناتجة عن ممارسة المهن والحرف الصناعية والتجارية غير التجارية، ورسم الإنفاق الاستهلاكي المفروض على نحو خمس خدمات وحوالي 31مادة تباع له، هذا فضلاً عن الرسم الخاص بالطابع على العقود والطلبات التي يقدمها ويجريها المواطن في حياته اليومية كعقد الاشتراك في شركات ومؤسسات المياه والكهرباء والهاتف، الاستدعاءات والعرائض المقدمة إلى الجهات العامة بقطاعيها الإداري والاقتصادي، الشهادات الرسمية للتعليم الثانوي والصادرة عن مؤسسات التعليم الخاصة والعقود بجميع أنواعها.. وغيرها.

الشريحة الثانية: وتتعلق بالرسوم والضرائب التي تفرض على المكلفين من أصحاب الشخصيات الاعتبارية كمؤسسات القطاع العام وشركاته ومنشآته على اختلاف أنواعها، المؤسسات المالية بما فيها المصارف وأعمال الصرافة وشركات التأمين وإعادة التأمين ومؤسسات التوفير، الشركات المساهمة والشركات ذات المسؤولية المحدودة، المؤسسات التجارية والصناعية التابعة لمنشآت خارج سوريا، وكذلك المكلفون من رجال الوسط الاقتصادي كتجار الاستيراد والتصدير وتجار الجملة والوسطاء بالعمولة، وكلاء المعامل الوطنية والأجنبية، تجارة العقارات، محطات بيع الوقود، بيع أدوات طبية وأجهزة عيادات ومخابر، معامل صنع الأدوية والمواد الكيميائية والعطورات ومستحضرات التجميل، المشافي ودور السينما.. الخ، ومع أن المكلفين هم من يدفعون الضريبة أو الرسم إلا أن المواطن والمستهلك لخدماتهم والمتعامل معهم هو من يسددها في النهاية، فالضريبة تدخل في بند (نفقات التكلفة..) وفي غالب الأحيان هذه الضريبة تذهب للجيوب الخاصة نتيجة التهرب الضريبي..

في محاضرة سابقة قدر المحاسب القانوني المعروف فؤاد بازرباشي عدد الضرائب والرسوم التي يدفعها المواطن السوري بنحو (70 ضريبة ورسماً، وإذا ما أضيفت على رسوم الوحدات الإدارية فالعدد يصل إلى نحو 100 ضريبة ورسم..!!).
التعليق الأول الذي نسمعه على ذلك أن الضريبة هي أداة تنموية وهي مورد أساسي من موارد الخزينة العامة لاسيما بعد حالة الانفتاح والتخفيضات الجمركية التي تمت خلال الفترة الماضية، ونحن نقول إننا كمواطنين عاديين لسنا ضد الضريبة ولا ضد هدفها التنموي، إنما على الأقل أن يكون دخلنا بمستوى جيد وبما يمكننا من دفع الضريبة والرسم وتلبية احتياجاتنا المعيشية.. لكن السؤال الهام الأخر هو أنه في مقابل التخفيضات الضريبية التي تمت لبعض الشرائح الاقتصادية وإلغاء البعض الأخر والتي لم يلمس منها المواطن أي تأثير.. هل حظي المواطن بذات التخفيضات؟!

الإجابة لها وجهان، الأول يؤكد أنه قد بالفعل تم إلغاء بعض الضرائب المحدودة جدا كضريبة الماشية مثلاً وتخفيض نسب ضريبية ورسوم أخرى كالرسوم الجمركية المفروضة على استيراد السيارات ورسم الإنفاق الاستهلاكي الذي أصبح يدفع مرة واحدة عليها، ورفع الشريحة الأولى من قيمة الراتب والمعفاة من ضريبة الدخل.. الخ، بينما يشير الوجه الثاني للإجابة إلى أنه ومقابل ذلك فرضت ضرائب ورسوم جديدة على بعض الخدمات والسلع والمنتجات التي لها علاقة مباشرة بالمواطن.

خيارات محدودة!
إذاً ما المطلوب أو بصيغة أخرى.. ما الحل؟! هل الحل يكمن في أن يتم إلغاء كثير من هذه الضرائب والرسوم بشكل مباشر وسريع؟! أم على الحكومة أن تعيد دراسة كل منها وتأثيراتها على حياة المواطنين والمطارح الضريبية الأخرى التي يمكن أن تحل مكانها؟!

ربما يكون الخيار الثاني هو الأفضل، لكن ثمة ما هو أفضل فنجاح وزارة المالية والفعاليات الاقتصادية الخاصة في الحد من عمليات التهرب الضريبي التي يقدرها الخبراء بنحو 200 مليار ليرة سنوياً وتوسيع قائمة التكليف الضريبي لتشمل الأنشطة الاقتصادية الكبيرة غير المنظورة سيعطي المجال واسعا أمام الحكومة للاتجاه نحو تخفيض وإلغاء بعض الضرائب والرسوم التي تمس بشكل مباشر المواطن وحياته، فمن غير المعقول أن تعفى المشاريع الاستثمارية من الضرائب والرسوم تبعاً للشرائح فيما على المواطن أن يدفع رسم إنفاق استهلاكي على السكر أو الشاي مثلاً!! طبعاً إلا إذا كانت الحكومة ووزارة المالية تعتبران أن تحصيل بعض المهربات الضريبية (زيادة خير)!!

والمحافظة كمان!
الجهة الأخرى التي لها علاقة مباشرة بالرسوم المفروضة على طلبات وجوانب عمل المواطن هي الوحدات الإدارية، إذ يعتقد الكثيرون أن كل ما يدفعه المواطن من رسوم، وما يمكن أن يندرج تحت خانة (ضرائب) وإن كانت التسمية القانونية لها تختلف لدى الجهة صاحبة العلاقة، يخضع أو يتم بإشراف من وزارة المالية فيما الواقع يشير إلى أن الجهات الإدارية كالمحافظات لها هي الأخرى حيز مهم من المسؤولية في هذا الأمر، ولتتشارك بذلك مع وزارة المالية في موضوع فرض الرسوم والضرائب وإن كانت التسميات تختلف أحياناً بين رسم وضريبة وتكليف.

ووفق قرار سابق وعدل مؤخراً فإن محافظة دمشق تفرض في النطاق المكاني لمحافظة دمشق ولصالحها التكاليف على المطارح والحوادث المستقلة لتأمين الخدمات والمشاريع لمحافظة دمشق نحو 29 تكليفاً، منها 22 تكليفا كمطارح تؤخذ التكاليف عنها بالليرات السورية على شكل مبلغ مقطوع، و7 مطارح تؤخذ التكاليف عنها بصورة نسبية أو حسب الكميات والعدد.

وتشمل الفئة الأولى عدداً كبيراً من الأنشطة، فهناك تكليف عن كل طلب لتركيب أو نقل أو فاتورة هاتف أو فاكس أو طرد بريدي واشتراك بالكهرباء والمياه أو كل بيان عقاري أو جمركي أو وكالة أو كل سيارة تنتقل من مكتب نقل البضائع.. الخ، أما الفئة الثانية فيفرض تكليف عن كل كيلوغرام من الأسمدة وعن كل كيلو زيت معدني وعن إطارات الآليات وعن كل فاتورة مياه وعلى مبيعات القطاع الخاص من الحديد ومواد البناء.. الخ.

ما يميز هذه التكاليف والمطارح التي تفرضها المحافظة أنها تحقق نوعاً من العدالة، فالمواطن هنا هو المواطن لا يميزه الوضع المعيشي ولا المهمة التي يشغلها ولا مدى الاستفادة من خدمات المحافظة، فالجميع عليه مسؤولية تنمية موارد المحافظة بغض النظر عن حجم استخدامه للمرافق أو تأثيره على خدمات المحافظة!

وبالتالي فهذه التكاليف أقرب للعشوائية منها إلى الموضوعية في الطرح والفرض، وعليه فإن تأمين تمويل مشاريع المحافظة يجب أن يستند إلى معايير عديدة تأخذ بعين الاعتبار وضع المواطن وموقعه في خريطة الخدمات، وما يفرض بدمشق ليس بالضرورة أن يفرض في حلب أو حمص أو دير الزور.. فلكل وحدة إدارية الحرية في فرض النسبة التي تريدها أو التي تراها ضرورية لزيادة تحصيلاتها من الرسوم.. وأنتم تعرفون كيف تقييم هذه الميزة!

أخيراً..

ندرك أننا لسنا في مجال فرض الضرائب الرسوم (نيئة عن الخليقة)، فجميع دول العالم تفرض أشكالاً مختلفة من الضرائب والرسوم، وعلينا أن نميز في ذلك بين الدول التي تؤمن لأفرادها دخلاً مناسباً وجيداً، وبين الدول التي هي على شاكلتنا تعجز عن فعل ذلك.. وبالتالي عند مقارنتنا في ميدان الضرائب يفترض أن نأخذ شريحة الدول الأولى لا الثانية، إلا إذا كان البعض يريد أن يجعلنا متقدمين في ذلك..!!