لا يميل المجريون بطبيعتهم كثيراً إلى السياسة، إنهم إذا ما وجدوا الوقت الكافي لها في حياتهم الراكضة الساعية لتأمين متطلباتهم اليومية الاستهلاكية الطاحنة، يختارون من السياسة ما لا يزيد كثيراً عن إلقاء نظرة سريعة ناقدة أو متبرمة إتجاه سياسات حكومتهم الداخلية فحسب، لما لها من علاقة أو تأثير طبيعي مباشر على مشاكلهم الحياتية. وبما أن الحياة السياسة البرلمانية، وفق المنظور الغربي لها هي جديدة كل الجدة عليهم، فهم لا يكفّون عن إبداء الدهشة التي تصل إلى مستوى الغضب، وغالباً السخرية، من الحرتقات السياسية المتهافتة، التي يتغمس في مزاولتها سياسيوهم أحياناً، ولا يتوانون في إبداء انزعاجهم من هبوط ذلك التهافت إلى أدنى درجاته أحياناً لاقتناص الفرص عبر سبل المكائد التي درجت أحزابهم المتنافسة على حوكها وتدبيرها لبعضها البعض. باختصار، إنها أمور لم يعتادوها قبل التحول... هذه الأيام، تتوالى فصول واحدة من القضايا التي يشعر الناس أنها نفخت أكثر من اللازم، فتحولت عن عمد من زوبعة بدأت إلى أزمة سياسية شغلت الناس طيلة هذه الفترة التي تلت مستهل هذا العام ولم تنتهي فصولها بعد، حيث استخدمت على مدار الأشهر الأخيرة من قبل المعارضة بشكل مبالغ فيه في رأي جمهور كبير من المجريين، إذ سيرت هذه المعارضة، ولا زالت تسيّر، من أجلها المظاهرات والاحتجاجات وصولاً إلى الاعتصامات، ومن جانبه أطنب ويطنب الإعلام المجري المغالي في ليبراليته في لوك حكايتها... ما هي؟!

في اجتماع حزبي مغلق قال جورج جورشان رئيس الوزراء من الحزب الاشتراكي الحاكم مؤتلفاً مع حزب صغير هو رابطة الأحرار المجريين، وأغلب منتسبي الأخير أو جمهوره من المثقفين واليهود، قال، ما معناه، لقد ضحكنا على الشعب إبان حملة الانتخابات التي فزنا فيها، بمعنى، أننا لم نفِِ بما وعدنا الناس في برنامجنا الانتخابي... هذا الكلام سُجّل وسرّب للصحافة، من قبل جهة ما، قد تكون من حزبه أو المؤتلفين معه، فتلقفت المعارضة هذه الهدية بشغف، مطالبة بالقصاص ممن خدعوا الشعب والثأر لكرامته التي أهانها من كذبوا عليه! وأصبح فيكتور أوربان رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب اتحاد الشباب الديمقراطي، أو الحزب الأكبر في المعارضة، يطل يومياً عبر وسائل الإعلام وشغله الشاغل هو المطالبة بالتسريع بيوم هذا القصاص... المعارضة، كما يردد بعض المجريين، وفيكتور أوربان من أهم رموزها، ربما فاقت جورج جورشان في مثل هذا النوع من الكذب، أي التنكر لوعودها الانتخابية وعدم الوفاء بها! ربما الفارق هنا هو صراحة جورشان، التي ربما ما كانت إلا لأنها جاءت في اجتماع مغلق، لكن المهم هو أنها ضبطت كاعترافٍ مسجل جاهز للاستخدام وهناك من تلقفه... بالمناسبة، الرجل يتحلى برعونة سياسية مشهود له بها، فالجميع لا زال يذكر تصريحه الطائش، الذي كلّف المجر اعتذاراً رسمياً من المملكة العربية السعودية، التي استدعت سفيرها من بودابست إثر هذا التصريح، ولم يعد إلى سفارته حتى كان هذا الاعتذار... يوم ذاك عبّر جورشان عن فرحته بفوز فريق كرة القدم المجري على زميله السعودي في مباراة جرت بين الطرفين بهذه العبارة، التي إن لم تكن مقصودة، فهي بلا شك تنم عن ما هو أكثر من الحماقة السياسية، وذلك لصدورها عن شخص هو في قمة المسؤولية في بلاده. قال جورشان، لافض فوه: لقد انتصرنا على هؤلاء الإرهابيين!!!

لم تقصّر المعارضة مذ جاء الرجل إلى السلطة، دأبت على تضخيم الهفوات الجورشانية، لكن الأمور هنا، ووفقاً لطبيعة المجريين، تظل أبعد ما تكون عن توخي حلولاً للخلافات بين المختلفين عن طريق "الثورات البرتقالية"، أو سائر التلاوين الاحتجاجية الحاسمة. لكن، على أية حال، من المتوقع أن رعونة جورج جورشان سوف تسهم بلا أدنى شك، وفق رأي المراقبين، في خسارة حزبه، الحزب الاشتراكي المجري، المعروف اختصاراً هنا ب" MSZP " للسلطة، وفوز الحزب المنافس الأقوى بها في الانتخابات القادمة، أي اتحاد الشباب الديمقراطي المعروف اختصاراً "FIDESZ"، وهذان الحزبان وحدهما هما فرسا رهان هذه الانتخابات باعتبارهما الأكبران، بالإضافة إلى الحزبين الصغيرين اللذين يأتلفان معهما عادة للوصول إلى الأغلبية في البرلمان. وهما، المنبر الديمقراطي "MDF "، وهو أول حزب وصل إلى السلطة بعد التحوّل، والذي يأتلف عادة مع اتحاد الشباب الديمقراطي، ورابطة الأحرار الديمقراطيين "SZDSZ" الذي كنا قد أشرنا له سابقاً، والذي يأتلف، وهذا ما يفعله الآن، مع الاشتراكيين... بالمناسبة أحزاب اليمين تراجعت وخرجت في الانتخابات الأخيرة من البرلمان...

... إذن المجريون يفتقدون رجال الدولة راهناً، مثلهم مثل أغلب أقطار أوروبا الشرقية الملتحقة بالاتحاد الأوروبي... لعل هذا ليس شأنهم وحدهم، بل هو ما قد ينسحب في مثل هذه الحقبة الراهنة عل أغلب أقطار العالم..!
وهنا نصل إلى حيث وجوب محاولة الإجابة على سؤال كنا قد طرحناه في المقالين السابقين وأجلنا الإجابة عليه، هو: إذن، وعطفاً على كل ما تقدم، ترى ما هو موقف المجر اليوم من قضايانا العربية؟

للإجابة، لابد من قسمة المجر إلى اثنتين، المجر الرسمية والأخرى الشعبية... الأولى، في سياستها الخارجية عموماً تلتزم، كما قلنا في المقال السابق، بسياسة الاتحاد الأوروبي الدولية، وكفى الله المؤمنين شر القتال! لكن مع ميل دائم إلى كسب ود واشنطن وبالتالي الحرص على رضى إسرائيل، وإن تصادف أن كان ذلك الميل على حساب ذلك الالتزام...
مثلاً، وتحت عباءة الناتو ، سبق وأن أعيرت القواعد العسكرية المجرية هنا للأمريكان لاستخدامها في غاراتهم على صربيا، وإبان التحضير لغزو العراق خصصت قاعدة بالقرب من بودابست لتدريب العملاء العراقيين الذين بلغ عددهم وفق ما قيل ما يقارب الثمانمائة قبيل الغزو، والذين استغلوا إبان الحرب للقيام بالدور المعروف في مساعدة الاحتلال خصوصاً عقب سقوط بغداد...بعد الاحتلال اقتصرت المشاركة المجرية فيما سمي بقوات التحالف على ما لا يزيد عن المئات من الجنود العاملين في التخصصات اللوجستية، ثم فيما بعد وحيث بدأ العديد من الدول الملتحقة بقافلة الغزو سحب قواتها والفرار من الورطة العراقية، أعلن أنه قد تم إعادتهم إلى بلادهم، فاقتصرت المشاركة المجرية من ثم على تدريب القوات الحكومية العراقية تحت الاحتلال، وهذا يتم في سياق المهمة التي أخذها الناتو على عاتقه بطلب ملح من الولايات المتحدة...

الملاحظ هنا، أن المجر لم تحاول بعد ما تحاوله روسيا اليوم، أو حتى بعض دول ما عرف بالمنظومة الاشتراكية سابقاً التي تحولت معها غرباً، بمعنى، أنه، وفي ظل خيبات الأمل بعد هذا التحول من حلول بركة الرفاهية السريعة عبر الدعم الغربي، لم تبادر إلى العودة لفتح دفاترها العتيقة وإعادة التعامل مع زبائنها القدامى من أصدقاء الأمس في العالم الثالث، فحيث من الملاحظ أن هناك بعض المحاولات الروسية التي تجري هذه الأيام للإفادة من العلاقات التقليدية مع أغلب بلدان العالم العربي في الحقبة السوفيتية والبناء عليها، وذلك لاستثمارها إقتصادياً على الأقل... على العكس تماماً تبدو المجر وكأنها قد أدارت ظهرها للمنطقة العربية، لكن هذا، وإن كان فيه بعض الصحة فهو غير صحيح بالمطلق. لقد ظلت دائماً أصواتاً تعود لثلة من مخضرمي الديبلوماسية المجرية، وأغلبهم من السفراء والديبلوماسيين الذين كانوا قد خدموا أو لازالوا يخدمون بلادهم لدى البلدان العربية، تدعو بإلحاح إلى توخي المصلحة المجرية عبر الإفادة من تلك العلاقة التاريخية والبناء عليها، لكن وفي حومة الجنوح غرباً، وتحت التأثير اليهودي القوي تاريخياً هنا، ضاعت مثل هذه الأصوات... هذه الأصوات أخذت مؤخراً في التعالي أكثر، ويمكن هنا الإشارة إلى مؤتمر للسفراء المجريين المعتمدين في العالم العربي وبعض إفريقيا عقد في عمان نهاية العام المنصرم تسرّب أنه قد عقد لبحث هذه المسألة تحديداً... لكن، ومع ذلك، وحتى الأن على الأقل، ظلت الأمور على ما يبدو تراوح مكانها.

والآن، نأتي إلى المجر الأخرى، المجر الشعبية، بادئ ذي بدء علينا ألا ننسى أن المجريين بشكل عام لا يعرفون الكثير عن قضايانا، ويجب ألا نندهش إذا ما خلط البعض منهم، مثلاً، بين فلسطين والباكستان... هذا مرده إلى أنهم يعانون ما يمكن أن نطلق عليه تعتيماً إعلامياً شبه كامل حيال القضايا العربية، بل لا يوجد أدنى شك لدى العارفين بدخائل الأمور في هذا البلد بأنه مقصود ويضرب حول كل ما يمت للعرب بصلة، أو يسهم في التواصل معهم، طبعاً مع بعض الاستثناءات دائماً، لأن أغلب الإعلام المجري، ولا نقول جميعه، هو إعلام منحاز بدرجة أو أخرى لأعداء العرب، أو هو يقع تحت تأثير مموليه ومالكيه، وأغلبهم يهوداً... لدرجة أن فضائية الجزيرة العربية الناطقة بالإنكليزية عندما بدأت بثها كانت تعد هنا بمثابة ما يرقى إلى الاكتشاف الإخباري المذهل أو المغاير في اختلافه عن السائد بالنسبة للإنسان المجري العادي...

ومع ذلك، لقد تظاهر المجريون، كما هو معروف، ضد غزو العراق، وأغلبية الشعب المجري ترفض احتلاله، بل إن قطاعات واسعة هنا ترفض السياسات الأمريكية الكونية بالمجمل، وتحديداً ترفض إقامة القواعد الأمريكية في بلادها، وشخصية الرئيس الأمريكي جورج بوش المكروهة هنا تظل مثار سخرية وتندر، وتدور حولها النكات المعبرة... هذه النكات الرائجة هذه الأيام، ليس هنا فحسب، وإنما في كثير من نواحي أوروبا... قال لي صديق مجري قديم التقيته هنا بعد طول فراق، أصدقك القول، إنني، ووفق ما يقال لنا، لم أعتقد يوماً أن الرئيس العراقي صدام حسين كان ملاكاً، ولكن انظر مالذي يفعله اليوم هؤلاء الشياطين باسم الديمقراطية في العراق؟!!

... من المفارقات البودابستية العديدة، وكنا لاحظنا تعددها في المقالين السابقين، أنك اليوم تشهد هنا نوعاً من التعاطف المجري الشعبي مع القضايا العربية ما كنا لنشهده سابقاً، وفتوراً رسمياً تجاهها لم يكن كذلك سابقاً، أي أن الحال هو بعكس تلك الحقبة الاشتراكية التي كان التعاطف فيها مع العرب رسمياً ويظل ضمن هذه الحدود دون أن يوازيه تعاطف شعبي. بل ورغم كل ما قد يعدّ اليوم نوعاً من شبه القطيعة نسبياً مع العالم العربي، لاسيما مقارنةً مع الماضي، نجد أن هناك اهتماماً جماهيرياً واضحاً بالثقافة العربية، خصوصاً الموسيقى، وقد تدهش عندما تسمع بعض المجريين مثلاً يتحدثون لك بإعجاب عن مطربين عرب شباب معروفون لديهم، مثل عمرو دياب مثلاً، وتزداد دهشةً عندما تلاحظ انتشاراً فيما يشبه الموجة لمدارس الرقص الشرقي الذي تعقد له المباريات على صدى أغانيهم الإيقاعية، أو أغاني الموجة المسماة بالشبابية السائدة والمختلف حولها راهناً في بلادنا، بل ولا يفوتك ملاحظة اهتمام مماثل بالأطعمة العربية، وتزايد وجود مطاعمها والبقاليات التي تبيع مواد تحضيرها، التي يديرها أو يمتلكها عرب مقيمون، أو تفرد محطات التلفزة المتنافسة برامجاً حولها...

وأكثر من هذا، قيل لي أنه في بودابست اليوم حوالي أربعة مساجد مستحدثة، وهناك تزايد في أعداد المسلمين المجريين، الذين لم يقتصروا، كما كان سابقاً، على بقايا مسلمين قدامى أو على الوافدين من العرب والآسياويين، أو زوجات هؤلاء المجريات وأبنائهم، وإنما من أهل البلاد أنفسهم، والأطرف أن هناك مجريات محجبات يمكن مشاهدتهن وهن يدلفن إلى تلك المساجد، وهناك مجريون يرحلون إلى دنيا العرب لتعلم أمور دينهم الجديد... أما العرب هنا فيقدر عددهم، حيث لا يوجد إحصاء رسمي لهم، حوالي ثلاثة آلاف عائلة، الغالبية عائلات مشتركة، بمعنى الأب عربي والأم مجرية، وهم نوعان: غالبية، أكثرها قدمت إلى المجر في الحقبة الاشتراكية طلاباً للعلم ولم يعودوا، أو فضلوا الاستقرار هنا، وبالتالي فهم إما مهندسون أو أطباء أو ما شاكل، وهؤلاء مثقفون في غالبهم وناجحون في مجالاتهم إجمالاً ومنهم جراحون اشتهروا على الصعيد الوطني المجري، ويمكن إضافة بعض التجار لهؤلاء، أو من تحولوا إلى التجارة منهم... وأقلية من عرب السوق السوداء، والمؤسف أن هؤلاء هم الأكثر شهرة، أو من تسلط عليهم لغاية في نفس يعقوب الأضواء للنيل من سمعة العرب...

بقي أن نقول، إنه في زمن العولمة أو بالأحرى الغوربة، ورغم قرع طبول الحرب الكونية الأمريكية وملحقاتها أو توابعها من طبول متبرعة أخرى على "الإرهاب"، وفي حومة استبدال العدو الأحمر بالإسلامي أو الأخضر المزعوم، لا زالت في أوروبا الشرقية شعوب تظل صديقة للعرب رافضة للظلم الواقع عليهم، متعاطفة مع حقوقهم العادلة... نعم جنحت حكوماتها غرباً في حومة التحوّل وأدارت ظهرها لأصدقائها القدامى... لكن المهم هو، أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: مالذي فعله أو يفعله العرب لإعادة وصل ما انقطع مع هذه الشعوب!