حين تهاوى حطام برجي مركز التجارة العالمي في عام 2001، ما كان ليخطر على بال أحد أن يُنتقد القادة الأميركيون يوماً ما على تشددهم في حماية مواطنيهم ضد المزيد من هجمات وأعمال العنف التي تستهدف حياتهم وبلادهم. ولكن ها قد جاء ذلك اليوم، وفي أقل من ست سنوات! فمنذ 11 سبتمبر من العام المذكور، كان هناك من دفعته عقلية نظرية المؤامرة، إلى الاعتقاد بأن تلك الهجمات لم تكن إلا بتدبير من بعض المسؤولين الأميركيين. وما أن يذهب أكاديمي بارز بوزن زبجينيو بريجنسكي إلى اتهام قادتنا ووصفهم بالمبالغة في تصوير "الحرب على الإرهاب" بهدف نشر ما أسماه "ثقافة الخوف" حتى يبدو جلياً أن التحريفية التاريخية قد أضحت تياراً رئيسياً في فهمنا وتحليلنا لأحداث التاريخ.

وعلى رغم أن بريجنسكي لم يقرر سوى البديهي والعام، بوصفه للإرهاب على أنه تكتيك وليس عدواً -انظر مقاله "المرعوبون من الحرب على الإرهاب" المنشور في مجلة "آوتلوك" عدد 25 مارس- فإن الإشارة إلى النقطة الأهم فاتته، بكل تأكيد. وأقصد بذلك أننا نخوض حرباً ضد حركة وأيديولوجيا عالمية، يسعى دعاتها وأنصارها إلى تحقيق أهدافهم الاستبدادية الشمولية عبر الإرهاب. لذلك فكم هو فادح خطأ بريجنسكي في سخريته من فكرة أننا نخوض حرباً، وكذلك في اقتراحه بأن علينا تبني ردود أفعال أكثر هدوءاً إزاء العمل الإرهابي!

وتثير في الأذهان هذه النزعة الرامية للاستهانة بحجم الخطر الإرهابي علينا، ذكريات استهانة القادة الأميركيين، وقتذاك، بخطر الثورة، التي قادها الخميني في بلاده نهاية عقد السبعينيات. وقد أفضى ذلك النهج الساذج في نهاية الأمر إلى اختطاف دبلوماسيينا وحبسهم كرهائن في طهران. وعليه فإن الاستراتيجية الرشيدة المسؤولة إزاء تنظيم "القاعدة" وغيره من التنظيمات المنضوية تحت الشبكة الأيديولوجية لجماعات الإرهاب هذه، إنما تبدأ بالتحديد الصحيح لحجم ومدى هذا الخطر الإرهابي. والحقيقة أن لتنظيم "القاعدة" وأشباهه في شبكة الإرهاب الأيديولوجي هذه، رؤية عالمية شبيهة برؤى أيديولوجيي الشمولية التاريخية، إلا أنها عدلت لكي تتوافق ومقتضيات الشبكة الخاصة بالقرن الحادي والعشرين.

وهناك سؤال مهم لا مناص من إثارته: هل ما يجري الآن هو بالفعل حرب بيننا وبين الإرهاب؟ والإجابة القصيرة والمباشرة عن هذا السؤال تأتي من عدونا. فما "الفتوى" التي أطلقها أسامة بن لادن في الثالث والعشرين من فبراير عام 1998، سوى إعلان صريح للحرب. وحرصاً منه على خدمة أهداف أيديولوجيته وتنظيمه، فقد بادر بن لادن لاتهام أميركا خلال تلك الفتوى بأنها تعلن حرباً على الإسلام، متعهداً بقتل الأميركيين وحلفائهم، سواء كانوا مدنيين أم عسكريين، وبصرف النظر عن البلدان والأقطار التي يوجدون فيها. ومنذ ذلك التاريخ سعى بن لادن وأتباعه إلى تنفيذ سلسلة متصلة من العمليات والهجمات التي تستهدف ضرب نظامنا الأمني العالمي، وتهديد سلامتنا واقتصاد بلادنا. وقد ظللت أذكر هذا يومياً، كلما رأيت تقديرات خاصة بالخطر الأمني، أو قرأت تقريراً أو وثائق تتعلق بالشبكة العسكرية لعدونا الإرهابي.

وبالنظر إلى النوايا والإعداد والقدرات والنتائج العملية، فقد أعلن أيديولوجيو الحركة الراديكالية الإسلامية المتطرفون الحرب علينا، وشرعوا في تنفيذ ما يحمل صفة الحرب الفعلية، بكل المقاييس الموضوعية للحكم على الحرب. والآن فقد أصبح لزاماً علينا تفصيل كل واحد من عناصر الحكم على هذه الحرب، على حدة.

1- النوايا: فكما نرى اليوم، فإن الجماعات الإسلامية الإرهابية لم تعد تسعى لإحداث ثورات إسلامية داخل حدود بلدانها فحسب، وإنما هي تعمل على فرض هيمنتها على كافة دول العالم. والهدف هنا هو إقامة إمبراطورية شمولية ثيوقراطية، عن طريق شن الحرب الدائمة على الجنود والمدنيين على حد سواء. ويتضمن تحقيق هذا الهدف استخدام أسلحة الدمار الشامل.

2- الاستعداد والقدرات: فعلى رغم ضخامة الهدف الذي يعمل من أجله المتطرفون، إلا أنه ليس خيالياً بالكامل. فقد شرع هؤلاء سواء كانوا في تنظيم "القاعدة" أم في حركة "طالبان" وغيرهما من التنظيمات والحركات الشبيهة المتحالفة معهما، وهي تنظيمات ممتدة من شمالي أفريقيا إلى العراق وصولاً إلى جنوب شرقي آسيا، في السيطرة في بعض الأحيان على رقعات جغرافية بكاملها، بحيث يوفرون فيها مراكز التدريب اللازمة، وتجهيز الأسلحة الفتاكة المتقدمة، وفرض قوانينهم القهرية، ثم السيطرة على الحياة المحلية للسكان. ويقيناً -وكما لاحظ بريجنسكي- فإن المدى الجغرافي الذي بلغته هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة، لم يصل إلى ما يمكن مقارنته بما وضعت عليه يدها كل من الحركتين النازية والستالينية لحظة حصولها على السلطة العسكرية المطلقة، في ذروة صعودها التاريخي. لكن في غياب يقظة ومثابرة جهود المجتمع الدولي المتحضر، فإنه ليس مستبعداً أن يتمكن هؤلاء المتطرفون من وضع أيديهم على دولة بحالها، أو أن ينشئوا لهم دويلات صغيرة متفرقة على امتداد الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.

3- النتائج والعواقب: هنا ترسم هجمات 11 سبتمبر خطاً فارقاً بين عواقب ونتائج نمط الحرب الإسلامية المتطرفة التي شنت علينا، والهجمات السياسية الإرهابية التي شنت على الدول الغربية خلال عقد السبعينيات. والحقيقة أن هجمات سبتمبر تمثل وحدها أكثر الهجمات دماراً علينا، مما تعرضت له بلادنا من هجمات عدوانية خارجية. وكانت خطط هؤلاء الإرهابيين الإسلاميين بنسف طائراتنا القادمة من لندن عبر المحيط الأطلسي في الصيف الماضي، تحمل خطراً مماثلاً لتلك الهجمات، لولا أنه تم الكشف عنها قبل تنفيذها. وهدف المتطرفين الإسلاميين كما هو واضح هنا، ليس تكبيدنا خسارة بشرية كبيرة في الأرواح فحسب، وإنما تعريض نظام السفر والتجارة العالميين لمخاطر كبيرة.

ولكي نجمل تعليقنا على هذه العناصر الثلاثة مجتمعة، فقد أعلن أعداؤنا الإرهابيون المتطرفون نواياهم الخاصة بشن الحرب علينا، ثم أعدوا لها ما استطاعوا، ثم نفذوا وألقوا علينا بتعباتها ونتائجها الوخيمة، على الصعيدين المادي والبشري.

وكم كان حلفاؤنا محقين في فهمهم وتحليلهم لهجمات سبتمبر التي شنها علينا تنظيم "القاعدة"، باعتبارها عدواناً دولياً. وفي الثاني عشر من الشهر نفسه، أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً تعهد فيه بالاستجابة لما حدث، بينما اتخذ حلف "الناتو" خطوة غير مسبوقة في تاريخه، بالإعلان عن أن تلك الهجمات تمثل عدواناً على مجمل دوله الأعضاء. وينبغي ألا تعمي أبصارنا حقيقة عدم حصول المتطرفين الإسلاميين على كافة العناصر والمقومات المطلوبة لسلطة الدولة، عن الخطر الأمني الذي يمثلونه لنظام الأمن الدولي. ولحرب الإرهاب الدولي هذه مخاطرها الرابضة في ساحات الحرب التقليدية الممتدة في العراق وأفغانستان، وصولاً إلى أزقة وشوارع المدن التي تدرب فيها مقاتلو تنظيم "القاعدة" وأشبابهم، وعرفوا كيف يقاتلون ويختبئون فيها. وفوق ذلك كله، فإنه يتعذر الفوز بهذه الحرب في جانبها العسكري فحسب. ولذلك فلابد من إيلاء اهتمام لدور "القوة الناعمة" فيها. وفي هذه الناحية بالذات، فإن حربنا الحالية تشبه إلى حد كبير أهمية الجانب الفكري في الحرب الباردة. وعلينا أن نستجيب هنا فكرياً وعالمياً، مثلما فعلنا من قبل في حقبة الحرب الباردة. وهي يقيناً حرب تتطلب المزيد من العزم والجلد.

وربما تثير مثل هذه الخطابية عن الحرب، ضيق بعض مفكرينا من أمثال بريجنسكي وغيره، غير أن شواهد التاريخ، طالما علمتنا مراراً وتكراراً، مدى خطورة الاستهانة بعدو كله عزم وجد في تحقيق ما يريد، مثل عدونا الإرهابي الحالي.

*وزير الأمن الداخلي الأميركي

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)