عالمان لم يلتقيا: عالم أرسى أسسه في تدمير حضارات عريقة بالحروب والإبادة والتطهير العرقي، كحضارة المايا والإنكا والأزتيك والأبورجينز، وعالم آخر آمن بالشرائع السماوية فاحترم الطبيعة، وصان أرواح البشر، فأقام الصلوات حين أصابته المحن، ودافع عن حريته وكرامته مبتعداً عن البغي والعدوان. عالم قام على قوّة السلاح والعنصرية، وقتل وهجّر السكان الأصليين، الذين هم نتاج حضارات متعاقبة لآلاف السنين، وأسدى عليهم صفة البدائية والتخلف، بينما كانوا ينتجون أرقى الفنون، ويلتزمون بأكرم القيم. عالم اغتال الإنسان، ودنّس الحضارة، ولوث الطبيعة من أجل الذهب والنفط والمال، وعالم آخر اغتنى بالإيمان وحاول العيش بسلام. ولفترة ما، وكي يضع يده على مصادر الطاقة تلبس عالم القوة والحروب لبوس الحريّة والأخلاق والاهتمام بالإنسان وحقوقه وحريته، ولكن هذه اللعبة ما لبثت أن انكشفت حين أغمض هذا العالم عينيه، وأدار ظهره لمعاناة ملايين البشر في البلدان، التي وطأتها جيوشهم المتعطشة للدمار، ولم يعد اليوم حديثه عن كرامة الإنسان وحقوقه تعني شيئاً لأي عاقل.

وقد بدا مثال هذا الانقسام في العالمين في غاية الوضوح، حين ضرب جنون العنف جامعة أمريكية، كما ضرب من قبل جامعات عراقية. ومدن في الجزائر والمغرب، وإذ بضحايا العنف في العالم العربي هم ضحايا الإرهاب، بينما ضحايا عنف مماثل وانتحاري في الولايات المتحدة هم ضحايا «طالب مضطرب» أو«قاتل مختل»، وإذا النتيجة «حادث عنف»، وليست «عملية إرهابية»، وإذ العمل «قتل وجنون»، وليس «إرهاباً». التسمية والتوصيف إذاً يعتمدان على هوية القاتل، وأحياناً على هوية الضحية. فإذا كان القاتل عربياً أو مسلماً، حتى وإن كان «مضطرباً»، أو «مختلاً»، والقتلة غالباً كذلك، فهو يعبّر عن صفات دفينة مردّها انتماؤه أو دينه الإسلامي. وقد انبرى رئيس الجامعة المنكوبة في فيرجينيا ليقول «إنه يكره من يسّيس مأساة كهذه»، وهذا صحيح، ولكنه لم يتساءل يوماً لماذا تمّ تسييس كلّ حادث قتل ضدّ العرب والمسلمين جميعاً، بحيث انتهى هذا التسييس بشنّ حرب مدمرّة على بلد عربي، أثبتت استخبارات البنتاغون ألا علاقة له بالقاعدة او بأحداث الحادي عشر من أيلول. وكلّ ما نقرأه اليوم، ونراه ونسمعه يؤكد سعي عالم القوة والحروب إلى تدمير العالم الآخر، الذي وجده مؤخراً في الإسلام وأمته، فحقوق الأطفال مقدسة ومصانة، ويتغنى بها الجميع، إلا إذا كانوا أطفالاً فلسطينيين،

بحيث يبدو طبيعياً ان تصرّح موفدة الأمم المتحدة لشؤون الأطفال والنزاعات المسلحة راديكا كوماراسوامي في القدس بأن «كلّ الأطفال الذين التقتهم تقريباً (في الأراضي الفلسطينية) تعرضوا للاعتقال، أو قابلوا شخصاً تعرّض للاعتقال أو اعتقل شقيقه»، وأن 398 طفلاً فلسطينياً تتراوح أعمارهم بين 12 سنة وما فوق، معتقلون حالياً في السجون الإسرائيلية من بين نحو أحد عشر ألف أسير فلسطيني، يرزحون حالياً في السجون الإسرائيلية، ومع ذلك، فشلت في إدانة أو استنكار ممارسات الاستعمار الإسرائيلي البغيض، الذي يرتكب هذه الجرائم بحق الأطفال، لا لشيء، إلا لأنه الاستعمار الاستيطاني الأبيض، الذي ينتمي لعالم القوة والحروب، القائم على تصفية وتهجير السكان الأصليين، ووضع المستوطنات والمستعمرات مكانها. ولم تذكر الصحف الدولية انتهاك حق المواطن الفلسطيني، عضو الكنيست في إسرائيل، في الحملات التي شنتها قوى الاحتلال ضدّه، لأنه يرفع صوته ضدّ الاحتلال، وينادي بالعدالة والمساواة والديمقراطية الحقيقية.

وفي غمرة تهجير أربعة ملايين عراقي، وإهمال ذكر معاناتهم، أو معالجة وضعهم في أحاديث السادة المستعمرين، يسيل لعاب أطماعهم على خبر يقول إن احتياط العراق من النفط، يبلغ ضعف ما كان مقدراً من قبل، وبعد اتفاق السودان مع الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي على معالجة وضع دارفور، ينبري الطامعون في ثروات ونفط دارفور بالتهديد والوعيد، لأن الحلول يجب ان تتضمن وضع أيديهم على ثروات تلك المنطقة الغنيّة، وحرمان أهلها منها، كما حدث في جميع بلدان افريقيا التي تزداد شعوبها فقراً، رغم الثروات الهائلة التي يسلبها المستعمرون المتحضرون منذ قرون منها.

لا غرابة إذاً، في ان هذه الحملات الاستعمارية الاستيطانية المتجددة منذ قرون الطامعة بثروات وخيرات بلداننا، قد ترافقت مع حملات إعلامية وسياسية عنصرية ضدّ العرب والمسلمين، وضدّ السكان غير البيض في الولايات المتحدة وأوروبا، والأنباء هذه الأيام تتعاظم عن مثل هذه الأحداث في لندن، ونيويورك، وألمانيا، لأن الحملة التي ادعت «الحرب على الإرهاب»، هي حملة إمبريالية جديدة، تلبس لبوساً جديداً لمضمون قديم همّه استعمار الشعوب، ونهب ثرواتها. الجديد في الأمر هو ان هذه القوى المستعمرة أخذت تدّعي، هذه المرّة، «نشر الديمقراطية»، مع أنها حليفة أنظمة مفضوحة بالاستبداد والفساد. سقطت أقنعة عالم القوة والعدوان جميعها اليوم، وحتى استخدامهم لقوى محلية لمساعدتهم، هو أسلوب قديم جديد، لأن الصراع لم يكن يوماً نقياً بين السود والبيض في جنوب أفريقيا مثلاً، حيث استخدم النظام العنصري الأبيض بعض السود كرأس حربة ضدّ إخوانهم السود، ولكن هذا لم يمنع شعب نلسون مانديلا ورفاقه من الصمود في نضالهم، إلى ان انتصروا على الظلم والعنصرية.

وقد بدا الكثيرون في الغرب يرون حقيقة أنظمتهم، وإن لم تشكلّ هذه الظاهرة بعد تحوّلاً جذرياً في الرأي العام الغربي، ففي الولايات المتحدة، ينقسم الأميركيون حول العراق، ولكنهم لا يختلفون كثيراً حول حقّ إسرائيل بسجن الشعب الفلسطيني وقتل أطفاله، وقطع مصادر رزقه، وسلبه حقوقه وهويته. في المقابل لا ينتظر الشعب الفلسطيني هؤلاء ليؤكدوا حقوقه. ففي غمرة السجن والاحتلال والحواجز والتدمير، ينشغل الفلسطينيون بشعرهم ولغتهم، فيصدح شعراؤهم في أرجاء الأمة، وتعمل باحثات فلسطينيات بقيادة الدكتورة فيحاء عبد الهادي، على لملمة الذاكرة الفلسطينية، وتدوينها في كتب جميلة وقيمة، وتنتقل بين رام الله والقاهرة ودمشق وبيروت، لتروي للنساء العربيات قصص الجدّات الفلسطينيات. كما يؤسس مناضلون عرب في لبنان وفلسطين والعراق والسودان والمغرب لرؤى قومية تربط البقاء بالنضال ضدّ الاستيطان والاستعمار والاحتلال والإذلال.

في عالم الاحتلال والعدوان، كلّ الجرائم مباحة للمحتلين المدججين بالسلاح، والحقد، والكراهية، يسلحون مليشياتهم، ويمنعون على من يحتلون أرضه ودياره السلاح والمقاومة، كان هذا مبرراً بحجة محاربة الإرهاب، أما اليوم وقد اكتشف العالم ان الحرب على الإرهاب هي حرب استعمارية، لوضع يد بضع شركات متحالفة مع سكان البيت الأبيض على مصادر الطاقة، وتضخيم جمهورية الخوف لتمتد رقعتها إلى كلّ مكان، فيقبل الناس على إنفاق مئات المليارات على السلاح لقتل أولادهم في حروب مجنونة، لا طائل من ورائها سوى تكديس ثروات بيد من أبادوا حضارات من أجل كنز الذهب، وأخلّوا بتوازن الطبيعة من أجل النفط. إن الصراع بين العالمين اليوم لم يعد صراعاً جغرافياً، فهناك في عالم المقهورين من يحابي قوى العدوان والاحتلال، وهناك في عالم القوة والغطرسة ضمائر تتحسس ظلم ما يجري وترفع صوتها ضدّه بالقول والقلم، والأمثلة أكثر من ان تحصى، وما كتاب إيلان بابه «التطهير العرقي في فلسطين»، والذي يتحدث عن تدمير القرى والمدن والمجازر والتهجير، إلا أحد الأعمال النبيلة التي تحاول وضع الحق في نصابه الصحيح.

عالم السلاح والمال والاستيطان والاحتلال، والسجون السرّية والتعذيب، والمكائد المخابراتية، يتوهم النصر على عالم الحضارة والروح والحق والعدالة السماوية والعقيدة السامية، وذلك لأنه يحسب كسبه من المال، بالأرقام المتضخمة يوماً بيوم، أما الشعوب المتمسّكة بالأرض والحضارة والعدالة، فتؤمن أنّ الأمور تقاس بنهاياتها. ولا شك ان الظلم بلغ أشدّه، على أمتنا اليوم، وان المعاناة الإنسانية في العراق وفلسطين والسودان والصومال، وصلت مستوى الكارثة، وأن التهديدات والمخاطر التي تطال بلداناً عربية أخرى لا تطاق، ولكن القادمين من عالم التوحش الاستيطاني، المتفاخرين بجرائمهم، لا يرون الشعوب، بل يرون الخيرات التي يرغبون في سلبها، أو لم تنهب مناجم الذهب في أفريقيا والسكان الأصليون المحيطون بها والعاملون على استخراجها، باقون على فقرهم؟ لم تعد مسألة الاحتلال والاستيطان خطيرة على العرب وحدهم اليوم، بل على قابلية هذا الكون في الاستمرار على ما هو عليه من ظلم، وعنف، وحروب، ودمار. وكما أحدثوا خللاً جسيماً في المناخ والطبيعة، يحدث المستعمرون اليوم خللاً خطيراً في القيم الإنسانية، وهوية الشعوب، ومصير الحضارات. عالمان لا يلتقيان، عالم يزرع الفتن والموت، ويرفع أسوار الكراهية والحقد، وعالم آخر يؤمن بالحريّة والكرامة، ويكافح من أجلهما.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)