تواجه الولايات المتحدة الأمريكية تحديات عسيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي ولاتقل عنها مستوى تلك التي تواجهها الحكومة العراقية في الداخل والخارج والتي قد تنجح في الإطاحة بها إذا لم تتخذ التدابير اللازمة لبقائها على قيد الحياة.

هناك ضغط شعبي أمريكي يتنامى يوماً بعد يوم ويستغله الديمقراطيون لحمل إدارة بوش على الانسحاب من العراق ووقف الحرب وقد تجسد بأشكال متنوعة كالتظاهرات الجماهيرية الجبارة التي اندلعت في كبرى المدن الأمريكية في الذكرى الرابعة للغزو الأمريكي للعراق وتفاقم حالة الاستياء والتذمر والغضب بين الناس لاسيما أهالي وعائلات الجنود المتواجدين على أرض المعركة ويواجهون خطر الموت في كل لحظة. الخوف هو الشعور الطاغي على نفوس الأمريكيين فالجنود العائدين إلى مدنهم في امريكا مصابون بأمراض نفسية خطيرة وتنتشر بينهم حالات الانتحار الدائم والتعرض للكوابيس إلى جانب حالة الذعر المستمرة والأرق والتي يعبرون عنها في رسائلهم أوالعادية المكتوبة والالكترونية رغم تعرضها للرقابة الشديدة وتعريض أصحابها للتوبيخ والتهديد المبطن لهم ولعوائلهم فضلاً عن معاناة الجنود المعوقين المصابين بعاهات وجروح خطيرة وأعضاء مقطوعة نتيجة تعرضهم لتفجر عبوة ناسفة أو قصف لعرباتهم والذين واجهوا الإهمال بعد عودتهم لبلادهم حيث حاول العديد منهم كسر جدار الصمت الذي يلفهم رسمياً ويمنعهم من كشف الحقائق بتهمة الخيانة وعدم الانضباط والاخلاص وانعدام الوطنية،

بل وحتى من عاد منهم سالماً من الناحية الجسدية والفيزيائية إلا أنه معطوب من الناحية النفسية ويبحث عن سلاحه عند سماعده لأي ضجيج أو فرقعة ومنهم من أصابته حالات من الصرع والهذيان والبارانويا ويتحدث بعصبية ويقود سيارته بسرعة جنونية كم لو أنه يريد أن يهرب من وحش أو خطر داهم يتربص به . هناك عملية لوي ذراع بين الكونغرس الأمريكي ذي الغالبية في مجلسيه النواب والشيوخ من جهة وبين إدارة جورج دبليو بوش الجمهورية ذات الأقلية بخصوص الاستراتيجية الواجب اتباعها في العراق وما يترتب عليها من تبعات مالية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية واستراتيجية تمس هيبة الولايات المتحدة الأمريكية ومصداقيتها في العالم الخارجي،

فأي فشل لأمريكا في العراق سيكون له تداعيات خطيرة على أمريكا نفسها وعلى حلفاؤها في المنطقة وسيكون بمثابة انتصار للإرهاب العالمي الذي سيتفاقم ويصبح أشد خطورة على حد تعبير الرئيس الأمريكي في خطابه الأخير الذي ألقاه في 20 نيسان الجاري وانتقد فيه النزعة الانهزامية والاستسلامية لدى منافسيه الديمقراطيين . وبالرغم من ذلك يحاول الأمريكيون أن يرموا بمسؤلية فشلهم في العراق على عاتق العراقيين واتهامهم بالتقصير وعدم الجدية في تحمل المسؤوليات الأمنية وتحقيق المصالحة الوطنية التي هي الشرط الأساسي والرئيسي لنجاح الخطة الأمنية الجديدة التي دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية وعززتها بقوات إضافية وهنا نكتشف زيف الادعات الأمريكية التي أعلنت مراراً وتكراراً بأنها ستساعد العراقيين في تطوين وتدريب وتجهيز قواتهم لعسكرية والأمنية لكنها في واقع الأمر تعرقل وتمنع تجهيز الجيش العراقي وقوات الأمن والشرطة بالأسلحة المتطورة والحديثة علماً بأن الإرهابيين يمتلكون أحدث الأجهزة وأكثرها تطوراُ وفتكاً إلى جانب الخبرة والتدريب والتأهيل العالي وجلهم من العسكريين المحترفين القدامى من أتباع النظام السابق وحيازتهم على الأموال الهائلة التي تؤهلهم للحصول على أحدث وأفضل أنواع الأسلحة،

وهكذا فإن العراقين يواجهون بدورهم صعوبات جمة وتحديات خطيرة وانقسامات داخلية وجو ملبد بغيوم الريبة وانعدام الثقة من قبل بعضهم تجاه بعضهم الآخر. أخطر تلك التحديات يتمثل بنشاطات الجماعات الإرهابية والقوى المسلحة والميليشيات. فالتنظيمات الإرهابية اخترقت التحصينات الأمنية حتى داخل المنطقة الخضراء كما دل على ذلك التفجير الانتحاري الأخير داخل كافتيريا البرلمان داخل والذي أودى بحياة أحد النواب وهو محمد عوض عن جبهة التوافق وجرح الكثيرين ومحاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء سلام الزوبعي على يد أحد أفراد حمايته العضو في القاعدة وقبله محاولة اغتيال نائب رئيس الجمهورية الدكتور عادل عبد المهدي الذي صرح قائلاً كلما هاجم الإرهابيون وحدتنا كلما تعززت تلك الوحدة وأصبحت أقوى وأكثر صلادة. وكذلك تعرض عمار الحكيم نجل عبد العزيز الحكيم لمحاولة اغتيال إلى جانب عشرات المسؤولين وكبار الموظفين الذين يسقطون يومياً قتلى تحت رصاص الإرهابيين ولكن إلى متى ستدوم تلك الوحدة الظاهرية التي تحدث عنها الدتور عادل عبد المهدي والتي أملتها ظروف الهجمة الإرهابية القاسية والخطيرة والتي تفاقمت في الأيام التالية بعدد من التفجيرات الدموية في الأسواق والأحياء الشعبية راح ضحيتها المئات من المدنيين الأبرياء في الصدرية ومدينة الصدر والجادرية والحارثية والكرادة . وقد علق وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس الذي زار العراق فجأة :" بأننا كنا نعرف منذ البداية أن الإرهابيين سوف يصعدون من هجماتهم وعنفهم المجاني ليقنعوا العراقيين بأن الخطة الأمنية المشتركة آيلة إلى الفشل لكننا عازمون ومصممون على الاستمرار والمثابرة لتثبت لهم العكس" .

في حين علقت الحكومة البريطانية على التطورات الأمنية والميدانية الأخيرة في العراق وعلى لسان وزيرة الخارجية مارغريت بيكيت بالقول :" إن هذه المجزرة الأخيرة في بغداد لهي مثال مرعب عن مدى ما يمكن أن يذهب إليه الإرهابيون والذين يقدمون الموت والدمار بغية نسف الدمقراطية الوليدة في العراق".

وأضافت قائلة :" إن مثل هذه الأفعال لايمكن إلا أن تزيدنا عزيمة وتصميماً بالاستمرار في دعم الشعب والحكومة العراقية والتشديد على أهمية المصالحة الوطنية في البلاد". فاستمرار أعمال العنف والسيارات المفخخة التي تحصد أرواح المدنيين الأبرياء تضع حكومة السيد نوري المالكي في وضع حرج وهي تواجه اليوم تحديات ومناورات التفكيك من الداخل بعد انسحاب وزراء التيار لصدري من الحكومة في خطوة كانت متوقعة في أعقاب انسحاب حزب الفضيلة من الإئتلاف الحاكم وتلويحات بانسحاب وزراء جبهة التوافق ووزراء القائمة العراقية من الحكومة وإمكانية التوصل إلى تشكيل تكتل سياسي جديد سيعمل على تقويض الحكومة بالطرق الشرعية والدستورية بحجب الثقة عنها إذا توفر له العدد الكافي من النواب داخل البرلمان يتفقون على صيغة عمل موحدة ومشتركة تكون لهم الأغلبية الطفيفة لكي يشلوا عمل الحكومة ويسلبوها شرعيتها ودستوريتها فهل سينجح المالكي في القفز على هذه العوائق وقهر التحديات وهل سيتمكن من إبقاء حكومته على قيد الحياة سياسياً؟ الجواب سيكون بالإيجاب إذا برع رئيس الوزراء في مناورته السياسية في استبدال وزرائه الضعفاء وغير الكفوئين وتوفير الخدمات العاجلة وبشكل ملموس للمواطنين والتقدم باتجاه تحقيق مصالحة حقيقية مع كافة شرائح المجتمع العراقي وممثليهم وتقليص نفوذ الميليشيات المسلحة بكل أصنافها وانتماءاتها وقطعها عن مصادر تمويلها الإقليمية وتجديد الكادر السياسي الحاكم وطاقم مستشاريه بمختلف اختصاصاتهم وإلا فإننا سائرون نحو الهاوية لامحالة .

فالعراق يتجه بخطوات متسارعة نحو التقسيم والخراب الشامل ومعنى ذلك أن الكارثة محدقة بهذا البلد المنكوب وستستمر لسنوات طويلة ولذلك حذر وزير الدفاع الأمريكي من تبعات وعواقب إنهيار العراق الذي سيهز أركان الشرق الأوسط برمته خاصة بلدان الخليج العربي ومعها إيران حيث سيدخل الجميع في دوامة من العنف والفوضى والاضطرابات الدامية التي ستعصف بها قبل أن تمس واشنطن والغرب بنيرانها من جراء تعرض مصادر الطاقة العالمية للخطر.

فإيران على سبيل المثال لايهمها استقرار العراق ومصير شعبه ومستقبله وهو لايمثل لها أكثر من ساحة للصراع والمنازلة مع القوات الأمريكية المتواجدة على قاب قوسين من المدن الإيرانية ومنشآتها الصناعية والنووية مما يثير لديها الفزع من تعرضها لضربات جوية وصاروخية أمريكية ـ إسرائيلية وبالتالي فمن مصلحة إيران تأجيج الأوضاع في العراق لإشغال القوات الأمريكية بإخمادها وتوجيه رسائل مشفرة للإدارة الأمريكية عما يمكن لطهران أن تفعله ضد قوات الولايات المتحدة في المنطقة . كما أن تركيا الدولة الجارة للعراق في الشمال تراقب بحذر تطورات المشهد العراقي وهي تعلن نفسها حامية للأقلية التركمانية في العراقية المتمركز أساساً في مدينة كركوك الغنية بالنفط والتي تعتبر الآن بمثابة قنبلة موقوتة لتفجير الصراعات القومية والإثنية والمذهبية لأنها نموذج مصغر للمجتمع العراقي بتنوعه العرقي والقومي والإثني والمذهبي والديني .

وما شهدناه مؤخراً من توتر وتهديدات متبادلة بين تركيا وكردستان العراق لهو دليل ساطع على ما نقول حينما هددت تركيا بالتدخل العسكري ووجهت إنذاراً شديد اللهجة لأكراد العراق في أعقاب تصريحات مسعود برزاني بأنه سيتدخل في الشأن الداخلي التركي ومساعدة أكراد تركيا إذا ما تدخلت تركيا في الشأن العراقي لاسيما في كركوك الذي يريد الأكراد ضمها لمنطقة كردستان بأي ثمن وهذا يشكل تحدياً غير مباشراً لسلطة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري المالكي إذ أن السياسة الخارجية العراقية تحددها الحكومة المركزية الإتحادية وليس أحد الأقاليم أياً كانت صلاحياته الداخلية التي منحها له الدستور الفيدرالي. وأخيراً وليس آخراً هناك ملف الفساد المستشري في الجسد العراقي كالوباء والذي تغذيه وتطوره مافيات الجريمة المنظمة المتغلغلة في ثنايا أجهزة الدولة .

كما توجد أمام رئيس الوزراء العراقي فرصة إضافية سيوفرها مؤتمر السلام والاستقرار للعراق وستشارك فيه دول الجوار في شرم الشيخ في مصر حيث بإمكان حكومة المالكي إقناع دول الجوار ودول العالم الكبرى المهتمة بالشأن العراقي أنه جاد وقادر على فرض القانون والنظام والاستقرار في العراق وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية وتطهير حكومته من العناصر الفاسدة والمرتشية وغير الكفوءة وتحقيق إصلاحات جذرية وحقيقية سريعة يلمسها المواطن العراقي لمس اليد حيث سيشكل الشعب السد المنيع لحماية الحكومة الشرعية ، فكل إجراء يتخذه رئيس الوزراء العراقي لصالح الشعب سيزيد من شعبيته وشرعيته وسيرسخ مكانته وموقعه ويثبت استقلاليته وسيادته حيال قوات الاحتلال كما حصل بشأن الجدار العازل الذي يريد الأمريكيون بنائه حول حي الأعظمية وأحياء سنية مضطربة أخرى حيث يحجز سكان تلك المناطق داخل سور مرتفع عدة أمتار كأنهم في سجن مما أثار امتعاض الناس فتصدى السيد المالكي بقوة وشجاعة من القاهرة لهذه القرار وقرر وقف بناء الجدار متحدياً القرار الأمريكي وهو يستحق كل تحية وتقدير لمثل هذا الموقف الشجاع تجاه مواطنيه.