ذهبت، منذ سنوات عديدة، إلى القول إن أكبر تحد فكري وسياسي فلسطيني تواجهه الفكرة الصهيونية والدولة الصهيونية، منذ اغتصاب فلسطين، هو ذاك التحدي الذي أطلقه الجيل الثاني من الحركة الوطنية الفلسطينية في داخل أراضي ال 48 ممثلاً بتعبيرين سياسيين وثقافيين نوعيين جديدين بدأت ملامحهما في التبلور على نحو حاد منذ سنوات الثمانينات، أعني منذ دخلت الحركة الوطنية الفلسطينية بجناحيها طور أزمة مديدة بخروج الثورة من لبنان وجنوحها إلى التسوية، وباستنفاد صيغ العمل الوطني في مناطق ال 48 ضمن أطرها التقليدية التي ظلت قابلة للاستيعاب “الإسرائيلي”. والتعبيران اللذان أعني هما: الحركة الإسلامية في الشمال الفلسطيني بقيادة الشيخ رائد صلاح، والتيار القومي الديمقراطي الذي يمثله “التجمع الوطني الديمقراطي” بقيادة المفكر المناضل عزمي بشارة.

ذهبت إلى القول بذلك في وقت تردد فيه احتجاج خافت (أعلاه البعض أحيانا) على عضوية الدكتور عزمي في الكنيست “الإسرائيلي” وتقدير من المحتجين بأن تلك العضوية لا تتناسب بما هي خيار سياسي والمقدمات الفكرية التي أعلنتها مطالعات عزمي للمسألة الوطنية الفلسطينية في مناطق ال ،48 وخاصة حينما كانت تلك المطالعات تعرج نقدياً على الأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب العربية في الداخل وهي تقارب حقوق الأقلية العربية داخل “إسرائيل” بمفاهيم شديدة الالتباس في معناها الوطني. ارتجل كثيرون ذلك الاحتجاج في صور استفهامية لم تعزها البراءة. لكن آخرين أرادوه احتجاجاً اتهامياً قارع عزمي بأدواته واتهمه بما اتهم به القيادات السياسية المتدحرجة إلى فخاخ الأسرلة، فقيل في الرجل (في جملة ما قيل) إن دخوله الكنيست إنما يكرس الاستراتيجية عينها التي ينتقد، ويقدم مساهمته في الادماج السياسي للمجتمع الفلسطيني في الكيان.. إلخ.

كان في وسعنا أن نلحظ في النقد الذي وجه إلى عزمي بشارة تباينات فكرية وسياسية غير قابلة للجمع والتأليف تحت عنوان نقد خيار فكري وخط سياسي يمثله عزمي ورفاقه. كنا نستطيع أن نتميز نقداً (بريئاً) لمواقف جديدة كان يعسر فهمها بسهولة لدى من اعتادوا التمييز القاطع بين نضال يقاطع المؤسسة الصهيونية وسبيل المشاركة العامة فينكفئ إلى وطنيته وعروبته معتكفاً معتزلاً أو منتظراً قدوم “الفاتحين العرب” لتخليص إخوتهم.. وبين عمل سياسي يقبل على المشاركة والعمل في المؤسسات بدعوى الواقعية ولو بشعارات مشروعة من قبيل المساواة في الحقوق المدنية والسياسية (وهو العمل الذي يتحسس منه العرب والقوميون منهم، فعدوه شكلاً من أشكال البحث عن سبل الاندماج والانصهار في المجتمع “الإسرائيلي”). كنا نستطيع أن نتميز هذا النقد (البريء) عند نقد آخر لم يكن في حقيقة أمره أكثر من هجوم على الخيار القومي الديمقراطي لعزمي بشارة تبعلة أنه يجدد سياسات الاندماج والاستيعاب مع اكسسوارات مفهومية جديدة.

كنا حين ذهبنا إلى الدفاع عن هذا الخيار ندرك أن وراء النقد الموجه إلى عزمي سوء فهم.. وسوء نية. لم يفهم بعض كيف يعتصم مثقف ومناضل بالفكرة القومية العربية ويعبر عن قناعات ديمقراطية وليبرالية في نضال سياسي لا تجري وقائعه في الدماغ وإنما فوق أرض فلسطين التي يقوم عليها كيان سياسي غير فلسطيني. ولم يفهم البعض الثاني كيف يشارك عزمي ورفاقه في الحياة السياسية، التي تقتضي التوسل بمفردات المواطنة والمساواة في الحقوق، فيدخل على منظومتها المتعلقة بالفرد مدونة من المطالب مدارها فكرة الجماعة القومية. أما الفارق بين سوء الفهمين، ففي أن الثاني يضمر سوء نية في نقده، لأنه “لا يفهم” كيف يختار عزمي خياراً قومياً أو يشدد على الطابع القومي لنضال الأقلية العربية فقط لأنه يرفض لعزمي خياره هذا كأفق جديد أمام نضال هذه الأقلية يقفل الأنفاق المسدودة التي حفرتها الخيارات السياسية التي يعبر عنها هؤلاء المتبرمون من عزمي ورفاقه في الداخل.

ذهبت (ولا شك في أن غيري ذهب) إلى اعتقاد مفاده أن الانتفاضة الفلسطينية التي أتت في عام 1987 تفتح مسرباً في النفق المسدود الذي دخلت فيه الحركة الوطنية ومنظمة التحرير والثورة في الخارج (خارج الأرض المحتلة)، وتقترح على العمل الوطني في الضفة والقطاع قواعد اشتباك جديدة، هي عينها في النتائج، تلك الانتفاضة السياسية والفكرية التي أطلقها الجيل الفلسطيني السياسي الجديد في مناطق ال 48 والتيار القومي الديمقراطي فيه على نحو خاص، والتي كان لأفكار عزمي بشارة وأطروحاته دور رئيسي في التأسيس النظري (والعملي) لها. قلت إن الانتفاضتين تتشابهان في النتائج (وهما تختلفان قطعاً في الأدوات والوسائل) لأنه كان للثانية (في دخل الخط الأخضر) عين ما كان للأولى في الضفة والقطاع: فتح أفق جديد أمام العمل الوطني وأمام الخروج من أزمته. نقلت الانتفاضة الأولى مركز العمل الوطني من اللجوء ومن التخوم إلى الداخل، وأدخلت في معترك ساحة المواجهة قطاعات المجتمع والشعب كافة، وأعادت الثانية رسم خط النضال للمجتمع الفلسطيني في المثلث والجليل والنقب بوصفه نضال شعب لا يطالب بحقوقه المدنية والسياسية حصراً (أي حقوق المواطن)، بل بحقوقه الوطنية الجماعية بحسبانه يمثل جماعة قومية متمايزة أيضاً.

تلك محطة ثالثة من محطات العمل الوطني في فلسطين 48 دشنتها أطروحات عزمي والتجربة النضالية ل “التجمع الوطني الديمقراطي” بعد محطتين منه استنفدتا دورهما. كان على الفلسطينيين في المحطة الأولى (أو هكذا أراد بعض نخبهم) أن يتسولوا البعض القليل القليل من حقوقهم من خلال العمل من داخل الأحزاب الصهيونية. وكان عليهم في المحطة الثانية أن يرفعوا من سقف مطالبهم إلى حيث يستقرون على مطلب المساواة في الحقوق المدنية والسياسية ك “مواطنين” في دولة “إسرائيل”. أما في هذه المحطة، فأصبح عليهم أن يناضلوا من أجل انتزاع الاعتراف بهم كجماعة قومية مختلفة وتحصيل حقوقهم تحت هذا العنوان.

في المقابل، أفهم هذا الخيار (القومي الديمقراطي) “إسرائيل” أن للعرب فيها ولاء أول للأمة العربية التي ينتمون إليها قبل أي ولاء آخر مفروض عليهم بالإكراه. وأن أعداء “إسرائيل” ليسوا أعداء لمليون ومائتي ألف فلسطيني فيها بل أهل وأحبة يقع عليهم واجب زيارتهم ومناصرة مقاوماتهم ضد الاحتلال كما في الضفة والقطاع ولبنان والجولان والعراق.

لا تتحمل “إسرائيل” هذه الجرعة العالية من النضال التي تضعها في حال حادة من الانكشاف أمام العالم. تعودت أن تصنع الأكاذيب وتسوقها من دون أن يكون في داخلها شهود قادرون على التفنيد والإبطال. أما حين يوجدون، وحين يكون في جملتهم رجل من عيار عزمي بشارة (وهو من هو في ساحة الفكر والسياسة)، فلا مجال لغير الردع: وهو عين ما تفعل اليوم ضد عزمي وضد كل من يركب مركبه في السياسة.

إن أعظم نصرة لعزمي بشارة اليوم أن يتحول خطابه من خطاب رجل وحزب إلى خطاب وطني في الداخل الفلسطيني وإلى خطاب عربي يحاصر العنصرية “الإسرائيلية”، ويفضح مخزونها القروسطي المعبأ في علب استهلاك “عصرية”.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)