كثيراً ما لاحظ الأميركيون الذين يسافرون إلى الدول الأخرى، أن مواطني تلك الدول يعلمون عن أميركا أكثر مما يعلم الأميركيون عن تلك الدول. ويعود الجزء الغالب من هذا، إلى وزن أميركا ودورها في الساحة الدولية، طالما أن سياساتها وأفعالها تؤثران على مصائر الدول والشعوب الأخرى.

غير أن هذا لا يعني عدم أهمية ما يجري في تلك الدول، بالنسبة للأميركيين في المقابل. بل على العكس تماماً، فبسبب تأثير ما تفعله أميركا على مصائر وحياة الشعوب الأخرى، فإن من المؤسف ألا تتوفر لدى الكثيرين من الأميركيين معلومات دقيقة يعول عليها في معرفتهم بتطلعات وهواجس ومخاوف شعوب دول العالم. وبحكم كون الأميركيين شعب الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، بل وبحكم تأثيرهم على السياسات الخارجية لبلادهم، عبر مشاركتهم في العملية الانتخابية التي تقرر من يصل إلى مراكز السلطة واتخاذ القرار في بلادهم، فإن من واجبهم أن يحسّنوا مستوى معرفتهم بتلك الدول. على أن وسائل الإعلام الأميركية، تتحمل جزءاً من المسؤولية عن جهل الأميركيين ببقية دول العالم.

والشاهد أن حجم البث الإعلامي الخارجي، قد تقلص عبر العقود والسنين، سواء كان الصحفي منه أم التلفزيوني والإذاعي. وقبل عدة عقود خلت، كان لهذه المحطات مراسلوها المنتشرون في مختلف بقاع العالم تقريباً، خلافاً لما هو واقع اليوم، من تقلص واضح في عدد المراسلين المكلفين بتغطية الأخبار والأحداث الخارجية. وربما كان العراق حالة استثنائية فريدة في هذه التغطيات، غير أن الحقيقة هي أن الجنود الأميركيين يقاتلون ويقتلون هناك كل يوم، إلى جانب أن سياسة الرئيس بوش إزاء العراق، أصبحت موضوع حوار سياسي عام، على امتداد الولايات المتحدة بأسرها، إلى درجة أنها أصبحت القضية الانتخابية الرئيسية، التي من شأنها تقرير مصير الحملة الانتخابية الرئاسية المقبلة برمتها.

ومع ذلك، فإن الملاحظ أن التغطية الصحفية لما يجري في العراق، مكرسة بالكامل تقريباً لرصد الدور الأميركي، وعدد القتلى بين جنودنا هناك بشكل يومي. وبالنتيجة، فإن تغطية عدد القتلى العراقيين وما يجري في الحياة اليومية العراقية، قلما حظيا بما يكفي من اهتمام المراسلين الصحفيين الأميركيين، قياساً إلى التغطية الإعلامية المكثفة لهذه الجوانب من قبل وسائل الإعلام والصحافة العربيتين. ويعود هذا الإهمال إلى انحياز ثقافي تعاني منه الصحافة الأميركية، شأنها في ذلك شأن بقية وسائل الإعلام العالمية الأخرى. ولكن المفارقة هنا أن الصورة التي يقدمها الإعلام الأميركي عن الواقع العراقي، تختلف كثيراً عن نظيرتها التي ترسمها وسائل الإعلام العربية. وإلى جانب مشكلة الانحياز الثقافي، هناك جانب آخر من المشكلة، يتلخص في تعويل الجزء الغالب من وسائل الإعلام الأميركية على الإعلانات. وبالنتيجة تحاول هذه الوسائل التنبؤ بما يروق للمستهلك الأميركي وما يفكر في شرائه واقتنائه غداً، طالما أن الاتساع اليومي لدائرة المستهدفين والمستهلكين، يعنى المزيد من العائدات والأرباح الإعلانية. لذلك وبدلاً من أن تلعب وسائل الإعلام دوراً قائداً في تثقيف الجمهور وتوجيه رأيه العام، تحول هذه الوسائل نفسها إلى مجرد تابع لما تسميه بالرأي العام، ومن ثم فهي تميل إلى تقديم وعرض ما يطلبه منها المستهلك لا أكثر. وهذا هو ما يفسر اهتمام وسائل الإعلام الأميركية بتغطية الأفلام ومواد التسلية والترفيه وأخبار النجوم، في حين يتضاءل الاهتمام بما يوصف بأنه تصريحات صحفية "مملة" من القادة السياسيين، وتلك الأنباء التي يبعث بها مراسلون صحفيون من أركان الدنيا وأقاصيها!

وفي الوقت نفسه، فقد هيمنت على برامج التعليقات الإذاعية بوجه خاص، برامج "الحديث اليومي" التي تتناول كل شيء له علاقة بالحياة اليومية الأميركية. وبسبب الاستقطاب الحاد الذي طرأ على الحوار السياسي العام هذه الأيام، حيث برزت عدة اتجاهات تطرح وجهة نظرها على نحو خصومي وعدواني في تناوله لوجهة النظر الأخرى، فقد تأثرت معظم برامج الحديث اليومي التلفزيوني والإذاعي بظاهرة الانحياز لهذا الطرف أو ذاك من أطراف النزاع السياسي. وعلى سبيل المثال، فقد ساد الاعتقاد بأن قناة "فوكس نيوز" التلفزيونية، تعد شديدة الانحياز لـ"المحافظين"، وقد أظهرت دراسات واستطلاعات الرأي التي أجريت مؤخراً، مساندتها الواضحة لإدارة الرئيس بوش وحزبه "الجمهوري". ومما يدل على هذا بشكل مباشر، أن "راش ليمبو" أحد مقدمي أشهر برامجها الإذاعية وأكثرها شعبية، حيث يبلغ مستمعوه الملايين على نطاق العالم، قد عرف بميوله اليمينية القوية، وانحيازه للرئيس بوش. وفي المقابل فقد عرف بعض المعلقين الصحفيين في القنوات والشبكات التلفزيونية والإذاعية، على يسار العملية السياسية الأميركية، بحدة انتقادهم للرئيس بوش ومؤيديه في الحزب "الجمهوري". وقد برز بين هؤلاء على نحو خاص، كل من "كيث أولبرمان" و"جون ستيوارت".

وبسبب عدم إلمام مقدمي هذه البرامج بما يكفي بالشؤون الدولية والخارجية، فعندما يستضيف أحدهم متحدثاً عن قضايا الشرق الأوسط على سبيل المثال، فإنه كثيراً ما يكون في وسع الضيف المتحدث، الإفلات من كل ما يقول، وإن كانت تصريحاته وآراؤه على قدر من الخطأ وعدم الدقة أو حتى التحيز. ولعل بعض المقدمين النوادر كتب لهم النجاح في تفادي هذه المشكلة، من أمثال "جيم ليهرر" الذي دأب على استضافة عدد من الذين يمثلون وجهات نظر متباينة ومتعارضة، في الموضوع الذي تناقشه الحلقة المعينة من حلقات البرامج. ولهذا السبب، وما أن بدا واضحاً في عام 2002، أن الرئيس بوش كان عازماً على اتخاذ إجراء عسكري ضد العراق، فلم تكن هناك سوى قلة لا تذكر من وسائل الإعلام الأميركية، تمكنت من إثارة الأسئلة الصعبة، ورسم علامات استفهام وشكوك إزاء تلك الخطوة. وفي حين انتشرت التحذيرات ضد استخدام القوة العسكرية وشن الحرب في أرجاء واسعة من منطقة الشرق الأوسط وغيرها من أنحاء العالم الأخرى، يلاحظ أنه لم تكن داخل أميركا نفسها، تحفظات أو تحذيرات تذكر من الغزو.

غير أن من الجيد والإيجابي اليوم، أن هناك حواراً عاماً يدور في أميركا الآن، عن سياساتها الخارجية، وعن الدور الذي يجب أن تؤديه في المسرح العالمي. وهذا ما يبعث الأمل في أن يبذل الصحفيون والمؤسسات الإعلامية، المزيد من الجهد في تثقيف الجمهور وتعريفه بالعالم الخارجي.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)