من هو ذاك الشيطان المارد الذي ظل دهره يتوارى وراء ستار، وامتطى اليوم صهوة الاستكبار العالمي، وتشبث بلجامه وقبض على زمامه وشدد عليه الخناق وراح يوجهه الوجهة التي يشاء ويسوق الناس بالعصا، ويصنفهم حسب هواه الى محاور من الأطهار البررة، وأخرى من الأشرار المجرمين الكفرة، ويؤلب الدنيا على الجهة الفلانية، ويحشد العالم ضد الفئة العلانية التي يدمغها بكل آثام الأنام على مشتهاه ويوقد الحروب هنا وهناك، ثم يجلس ليتلذذ وليعد العدة لهجمة استعلاء جديدة أشد غطرسة يدوس في حمأتها كل القيم وينتهك كل الحقوق ويتعدى على كل المقدسات؟

في هذه المقالة يتصدى البروفيسور جيمس بيتراس*، وهو أستاذ جامعي من أرباب الفكر والقلم، الثوار، على طريقتهم الخاصة، للإجابة عن هذا السؤال المهم عساه يميط اللثام عن الزمرة التي يطلق عليها اسم منظومة القوى الصهيونية الطاغية، ويصفها بأنها هي القوة الكبرى الفاعلة المقتدرة التي تحرك هذا التنين المخيف الذي يوشك ان يبسط سطوته على مشارق الأرض ومغاربها بما يحاول بثه من رعب وإرهاب يخيف به الشعوب والأمم بعد أن أرعب به الأنظمة حتى توافدت إليه خاشعة ضارعة. وها هو يدق طبول الحرب لضرب إيران.

الولايات المتحدة تستند إلى 4 محاور لفرض هيمنتها على المنطقة
لن يتسنى استيعاب أبعاد السياسة الامبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط وفهم بواعثها ومنطلقاتها وغاياتها سوى بالقيام بتحليل تشخيص متأن يتمحور حول نقاط أربع.
1 قوة ونفوذ “إسرائيل” ومنظومة الجبروت الصهيوني بكامل عناصرها التي تشكل اخطبوطا تطوق أذرعه المؤسسات السياسية الأمريكية (الكونجرس والفرع التنفيذي، والإعلام الجماهيري، والحزبان السياسيان الرئيسيان، والآليات والعمليات الانتخابية)، وتمارس نفوذها وسطوتها الاقتصادية على المؤسسات المالية والاستثمارية (صناديق تقاعد ومعاشات الدولة والاتحادات والنقابات التجارية، وبنوك الاستثمار)، وتخيم هيمنتها الثقافية على الصحف والمجلات، والأفلام والفنون بشتى ألوانها. وتتضافر قوى الصهيونية السياسية والاقتصادية والثقافية لتحقيق الغاية الكبرى، ألا وهي مؤازرة وتعزيز توسع “إسرائيل” العسكري والسياسي وبسط المزيد من الهيمنة الاقتصادية الطاغية في ارجاء الشرق الأوسط، حتى لو تضارب هذا التوجه مع المصالح الامبريالية الأمريكية الأخرى.

2 القدرة الهائلة للامبراطورية الأمريكية على إقامة دول شرق أوسطية تدور في فلكها، ومن ثم اتخاذ هذه الأنظمة كأدوات تستخدم لتنفيذ سياسات ومآرب الولايات المتحدة، وإنشاء قوات مرتزقة لتنفيذ السياسات الأمريكية. ولربما اشتملت أهم الأدوات الحالية وأكثرها خطورة على النظام المنصب في بغداد، ونظام كردستان العراق، و”منظمة مجاهدي خلق”، والزعامات العشائرية التي ترتضي مصانعة أمريكا وموالاتها، اضافة الى “النظام” الصومالي الجديد المدعوم من قوات مرتزقة اثيوبية وأوغندية.

3 التحالف مع دول في المنطقة تؤمن القواعد العسكرية والدعم الاستخباراتي والسياسي للاحتلال في العراق، ومساندة خطة تقسيم العراق ومناصرة خطط حصار ايران وفرض عقوبات عليها، بل وشن الحرب عليها اذا لزم الأمر، ومحاربة حركات المقاومة في فلسطين والعراق، وما أمر حماس ومع ما تتعرض له من حصار عنا ببعيد.

4 القدرة على احتواء وقمع وتحجيم معارضة أغلبية الرأي العام الأمريكي، وأقلية في الكونجرس للحرب الدائرة الآن في العراق ولحرب قد تشن مستقبلاً على ايران، والمعضلة المحورية بالنسبة للامبريالية الأمريكية تتمثل في التشكيك بالمدنيين ذوي الاتجاه العسكري في البيت الأبيض وإضعاف الثقة بهم ولجم نزعتهم المتزايدة الى اللجوء “مغامرات” سياسية جديدة و”استفزازات” لاسترداد الدعم ولاستجماع السلطات والصلاحيات الديكتاتورية وتركيزها في مكتب الرئيس.

وهذه “القوى الموجهة” لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تجابه تحديات متزايدة من الداخل والخارج، كما انها تعاني من تناقضات حادة، وتتهددها احتمالات الاخفاق. ومع ذلك ف”آلة” القوة الامبريالية ما زالت نشطة تعمل وتصوغ طبيعة السياسة الأمريكية الشرق أوسطية.

القسم الأول
“القوى الموجهة” لجبروت الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: منظومة القوى “الاسرائيلية” الصهيونية.

لأول مرة في تاريخ الامبراطوريات التي تتغلف فتبسط هيمنتها على العالم تتمكن أقلية عرقية دينية ضئيلة العدد لا تشكل سوى أقل من 2% من عدد السكان من رسم كل تصورات ومحاور سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بخطوطها العريضة وبتفاصيلها، وذلك لخدمة المصالح الاستعمارية لبلد أجنبي هو “اسرائيل”، التي تكون أقل من 1% من مجموع سكان الشرق الأوسط. وتستطيع منظومة القوى الصهيونية المهيمنة في الولايات المتحدة التي تضم في صفوفها مئات الألوف من النشطاء المتعصبين المنبثين في ارجاء البلاد، حشد وتعبئة وتجنيد 98% من أعضاء الكونجرس الأمريكي وضمان مناصرتهم لأي تشريع يحابي “إسرائيل”، حتى وان كانت موافقتهم تجحف بحق شركات نفط أمريكية كبرى متعددة الجنسيات. وعلى سبيل المثال، تصوغ “ايباك” (اللجنة الأمريكية “الاسرائيلية” للشؤون السياسية) التي يزيد عدد أعضائها على مائة ألف عضو ويعمل معها بنظام التفرغ والدوام الكامل مائة عميل وتذبح كل عام أكثر من 100 نص تشريعي في الكونجرس لها تأثير بالغ في التجارة الأمريكية، والعون العسكري وسياسة الحظر وسياسات العقوبات التي تصب في مصلحة “إسرائيل”. ففي مارس/ آذار من عام 2007 حضر زعماء الحزبين السياسيين كليهما، وزعماء وأعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ، وما يزيد على 50% من إجمالي أعضاء الكونجرس أحدث مؤتمر عقدته “ايباك” في واشنطن مؤخرا وتعاهدوا على الإخلاص لدولة “إسرائيل” والولاء لها. حدث هذا كله على الرغم من حقيقة ان اثنين من زعماء ايباك يخضعان حالياً للمحاكمة لتجسسهما لمصلحة “إسرائيل” ويواجهان عقوبة تصل الى 20 سنة في السجن.

“ايباك” جرم ضئيل ليس إلا
وقد يعجب بعض القراء غير المطلعين من ان ايباك بكل سطوتها وجبروتها وما تنهض به من دور وتقوم به من مهام ما هي إلا جرم تابع صغير يدور في فلك منظومة القوى الصهيونية التي تضم حشدا كبيرا من امثال مجموعة ايباك “الضاغطة”. ففي غمرة التحضير لغزو العراق هيمن الصهاينة على مكتب نائب الرئيس، وكان من بين افراد هذه الزمرة المجرم المدان ايرفينج “سكوتر” ليبي، والبنتاجون وعملياته “الاستخباراتية” (وولفويتز، وفيث وتشومسكي)، واحتل البعض منهم مراكز استراتيجية في البيت الأبيض، وفي مجلس الأمن القومي فرام، مؤلف خطاب بوش الذي رسخ فيه مصطلح ومفهوم “محور الشر، وابرامز، المجرم، المعفو عنه، والمتورط في فضيحة ايران كونترا، والذي عهد اليه اليوم بإدارة ملف سياسة الشرق الأوسط، وآري فليشر (الناطق الرسمي باسم الرئيس بوش) ويهيمن الصهاينة على الصفحات الرئيسية والمقالات الافتتاحية وصفحات الرأي في كبريات الصحف (جريدة الوول ستريت جورنال والواشنطن بوست والنيويورك تايمز) وكبريات الشبكات التلفزيونية وهوليوود، وتتدخل مئات الاتحادات اليهودية، بشتى مشاربها ومواطنها، من الاقليمية الى الأمريكية والمحلية للحيلولة دون نيل “إسرائيل” بأي انتقاد مهما كان واهياً خفيفاً، حيث تشن هجوماً ضارباً على اي منتقد، وتهاجم الاجتماعات والمنتديات واي انتاج سينمائي أو مسرحي وتفلح في إلغاء كافة هذه النشاطات التي تشتم منها أدنى رائحة لانتقاد “إسرائيل”.
وكان السلطان والنفوذ الجبروتي الذي بلغته المنظومة الصهيونية وهيمنتها على مقاليده هو القوة المتحكمة الدافعة التي تحرك خطط الحرب الأمريكية والعقوبات ضد ايران. وألقت هذه المنظومة المستبدة بمراكز القوى ومواقع صنع القرار في الولايات المتحدة بكل ثقلها وراء بوش ودعمته في غزوه للعراق، كما ضمنت هذه المنظومة الصهيونية مؤازرة الولايات المتحدة لهجوم “اسرائيل” الدموي الوحشي على لبنان ومساندتها الكاملة لهذا العدوان الذي سدد طعنة نجلاء لحكومة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة المنتخبة شرعياً وأضعف موقفها وأحدث انقساماً داخل المجتمع اللبناني. وحاكت هذه الزمرة الصهيونية المتسلطة على كل بؤر التأثير في السياسة الأمريكية ثوب تشريع الكونجرس الذي يوصد الأبواب أمام أي اتصال بحكومة الوحدة الفلسطينية وحشدت هذه المنظومة بنجاح دعم الكونجرس الأمريكي للحصار الجائر الوحشي للشعب الفلسطيني والعقوبات البالغة القسوة التي تستهدف تجويع هذا الشعب وتركيعه والتي ألقت خلال الأشهر العشرين الماضية بهذا الشعب في الضفة والقطاع في هوة الفقر المدقع والعوز ورفعت معدلات البطالة الى مستويات جنونية. وتتعدى هيمنة القوى الصهيونية على السياسة الأمريكية الشرق أوسطية نطاق التأثير في “الرأي العام”، فهي تخترق أهم المؤسسات المحورية وترسم السياسات وتضغط بكل جبروتها لتنفيذ هذه السياسات وتحرض على شن الحروب، التي لا يستفيد منها سوى “إسرائيل”.

وبإيجاز شديد نقول انه تأكد بيقين وببراهين دامغة لا يتطرق إليها شك ان ولاء منظومة النفوذ الصهيوني المهيمن الحقيقي إنما هو لدولة “إسرائيل”، وقد رسمت سياسة هذه المنظومة وحيكت مخططاتها ليتسنى لها الهيمنة المطلقة على الكونجرس الأمريكي وشتى مواقع صناعة القرار في مؤسسات الادارة الأمريكية ولتسخير هذا كله لخدمة مصالح “البلد الأم”، “إسرائيل” وتأمين الدعم الكامل لها.

وثمة 30 عضو كونجرس ما هم في الحقيقة إلا خواتم بيد الصهاينة، وهناك ايضاً 13 من الشيوخ ولاؤهم المطلق ل “إسرائيل”، كما يقود الصهاينة بعضاً من أهم وأخطر اللجان في الكونجرس. ويترأس مؤتمر الحزب الديمقراطي الحزبي رام ايمانويل، وهو عضو سابق في القيادة العسكرية “الاسرائيلية” وضابط في جيشها. وكان ايمانويل أداة التحرك النشط الأنجع والأشد تأثيراً في حمل أغلبية الحزب الديمقراطي في الكونجرس على شطب فقرة رئيسية في مشروع قانون يتعلق بمخصصات الحرب، كان يمكن ان تحول بين بوش وشن الحرب على ايران من دون استشارة الكونجرس. وضمنت منظومة القوى الصهيونية دعم جميع المرشحين الرئاسيين المطلق غير المشروط ل”إسرائيل” ولترويجها “خيار الحرب” ضد ايران. ونجحت هذه المنظومة في دفع الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق، إلا أنها لم تفلح في الحيلولة دون انقلاب الاغلبية الساحقة من الأمريكيين على فكرة الحرب في العراق وتحولهم الى موقف الرافض لهذه الحرب الساعي لإيقافها.

ولم يعد يخفى على العامة، فضلاً عن الخاصة، في الولايات المتحدة مدى طغيان نفوذ منظومة قوى الصهيونية وتغلغل سلطانها في كل مرافق الحياة في أمريكا وهيمنتها الوقحة والعلنية على سياسة الشرق الأوسط، ومن هنا بدأت التوجسات تكبر، وحرّض هذا التخوف، ولأول مرة معارضة واسعة النطاق في أوساط القوميين الوطنيين ضمن دائرة المسؤولين العسكريين الأمريكان وبين المحافظين، اضافة الى عدد متزايد من أساتذة الجامعات والمفكرين. وللمرة الأولى تشرّع الأبواب أمام نقاش كبير يدور حول قضية ما اذا كانت “إسرائيل” تشكل “ثروة استراتيجية نفيسة” أم “عبئاً استراتيجياً” يعيق بلورة وازدهار مصالح الولايات المتحدة الامبريالية.

ويشمل تيار معارضة منظومة القوى الصهيونية الفئة المناصرة للامبراطورية، وتلك المناوئة لها كليهما. ويجادل نقاد “إسرائيل” المؤيدون للامبراطورية ويبسطون حججهم التي يستهلونها بحقيقة ان “إسرائيل” التهمت ما يزيد على 110 مليارات دولار من المنح والقروض التي تستلم أموالها فوراً، وأن لها خطوة استثنائية في حيازة ما تشاء من تقنيات الأسلحة الأمريكية، وانها تتنافس مع صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة. وينكر هؤلاء على “إسرائيل” القهر الاستعماري والقمع والاضطهاد الذي تمارسه في فلسطين ويرون ان هذا النهج هو الذي يخلق التوتر ويؤزم الأوضاع ويشعل فتيل الصراعات التي تلحق بصناعة النفط الأمريكية ضرراً بالغاً. ويجادل هذا الفريق كذلك في أن سياسات الحرب “الاسرائيلية” التي تساندها الصهيونية في الشرق الأوسط تنسف ركائز توسع المصالح النفطية والمالية الأمريكية المتحالفة مع “دول نفطية” عربية.

وأما خصوم الامبراطورية الذين يعارضون هيمنة الصهيونية على سياسة الشرق الأوسط فيحتجون بأن غزو العراق أدى الى قتل وجرح ملايين العراقيين وقتل وجرح عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين، وكلف ما يزيد على 500 مليار دولار، وقاد الى تدمير الأسيجة الحمائية الدستورية الأمريكية التي تصون الحريات المدنية وتحول دون انتهاكها. ويدعو هؤلاء الى انسحاب فوري للقوات الأمريكية ويطالبون بتجريد الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، والبدء بنزع الأسلحة النووية “الاسرائيلية”.
وفيما ينصرف الصهاينة الى سوق الكونجرس من أنفه صاغراً لجر الولايات المتحدة الى هوة حرب كبرى أخرى ضد ايران هذه المرة (الخيار العسكري)، ينبغي عليهم مواجهة مقاومة متنامية في ارجاء العالم.

ويتجلى تطرف منظومة القوى الصهيونية المتعصب في دعمه ل”إسرائيل” في تلهفهم حتى على المقامرة بالسلم العالمي والمخاطرة بإيقاد حرب عالمية والتسبب في كساد عالمي دفاعاً عن أطماع تل أبيب وطموحاتها في الهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط وتدمير ايران، هذا البلد الكبير الذي يزيد تعداده على 80 مليون نسمة.

مرتزقة حسب الطلب
ولكن المد الامبريالي الأمريكي ما كان له ان يطمع بموطئ قدم في المنطقة، يؤسس، انطلاقاً منه، لوثبة كبرى ينقض بها على شعوبها ويستولي على ثرواتها لو لم يعثر على ضالته لتنفيذ مآربه في أرض خصبة وأدوات نشطة لها تأثير بالغ تكفيه مؤونة القتال وتكبد الخسائر على كثير من الجبهات. ولا شك ان امريكا تدرك ضخامة الكلفة السياسية والاقتصادية لتورط القوات الأمريكية المسلحة الشامل والواسع النطاق طويل الأمد في حروب استعمارية. وحملها إدراكها هذا لفداحة الثمن الذي ينبغي دفعه في هذا المعترك على التفتيش عن وكلاء يقومون ببعض المهام عوضاً عنها. لذا زادت واشنطن من اعتمادها على بعض الأنظمة والزعامات النافذة المسموعة الكلمة المرهوبة الجانب والمنظمات الارهابية التي تمد الآلة العسكرية الأمريكية بالعسكر المرتزقة وبقوات الاستخبارات، وثمة أمثلة وافرة على هذا النهج، لعل أبرزها الميليشيات التي تحولت الى فرق للموت في العراق تعيث في الأرض فساداً وتخرّب البلاد وتهلك وتهجر العباد.

والتمويل الأمريكي الهائل لقوات الأمن “العراقية” كي تحل في نهاية المطاف محل القوات البرية الأمريكية باعتبارها قوة الدفاع الرئيسية عن نظام نصبته الولايات المتحدة فصار يحتار كيف يستجدي رضاها في الوقت ذاته الذي ينزلف فيه الى الميليشيات التي تنشر الموت الزؤام وتملأ دروب العراق وطرقه المدمرة بالجثث المجهولة الهوية التي تظهر عليها آثار التعذيب بعد ان غصت مياه دجلة بأمثال هذه الجثث التي تحولت الى نبع لا ينضب أغرق العراق بالدم المراق.

شبح تقسيم العراق
وبالطبع ستتولى هذه القوى الرديفة لقوى الغزو والاستعمار مهمة الدفاع عن القواعد الأمريكية اذا دعت الحاجة، ومهمة مقارعة فصائل المقاومة التي تنهض لقتال المحتل. وتدريب واشنطن “إسرائيل” للأكراد في شمال العراق وامدادهم بالمشورة والمال وتعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي معهم إنما هو مثال آخر وغيض من فيض الأدلة والشواهد على ان الولايات المتحدة اتخذت من هذه الأنظمة والفئات سلماً ترتقي درجاته لبلوغ غاياتها وتنفيذ مخططاتها. وتحقق واشنطن بتسخيرها للمرتزقة المحليين واستغلالهم بصفتهم “أدوات” عدة أهداف سياسية ودعائية. ففي المقام الأول يخلق استخدام قوات المرتزقة المحلية وايكال المهام اليها وهما خادعاً يوحي بأن واشنطن آخذة “بتسليم” السلطة الى النظام “المحلي” بشكل متدرج يخدر بعض الناس. وثانياً، يترك هذا النهج الذي تتبعه الادارة الأمريكية انطباعاً بأن النظام الصنيعة قادر على حكم البلاد وتسيير الأمور وسياسة العباد. وثالثاً يمكن لهذا التوجه ان ينفخ في أبواق الدعاية الصاخبة لتنبري جوقتها لتمجيد وتلميع أسطورة لا تستند الا الى الزيف المحض اذ تزعم قيام جيش قادر “يمكن الاعتماد عليه” و”مستقر” يستطيع فرض الأمن وإشاعة الاستقرار، جيش يتكون من أهل العراق أنفسهم.

ورابعاً وأخيراً، يخلق نشوء ميليشيات المرتزقة المحلية خرافة موغلة في الدجل تذهب الى ان الصراع في جوهره ما هو إلا “حرب أهلية” نشبت بين هذه الفئة من العراقيين وتلك، عوضاً عن اسباغ الوصف الحقيقي عليها، هو صراع التحرير الوطني الذي يخوض حرباً شرسة ضد قوة استعمارية غازية تبذل كل وسعها لوصم المقاومة العراقية بالإرهاب.

ويخدم الاستخدام الامبريالي لأكراد شمال العراق أهدافاً امبريالية أمريكية استراتيجية بسبل شتى. فأولاً، يتم تسخير الأكراد لقمع المعارضة العربية والتركمانية التي تبلورت خلال السنوات الأربع الماضية وتجسدت وتجلت في قوى منتشرة في جميع ارجاء العراق لا سيما في الشمال، حيث يلقى العرب بوجه خاص عنتاً شديداً ويواجهون التهجير والترهيب والترويع بسبب مناهضتهم للقوى الاستعمارية وتصديهم لمطامع الأكراد. ويتمثل الطريق الثاني لبلورة الغايات الاستراتيجية التي تصبو الامبريالية الامريكية الى تحقيقها في مشروع شرذمة الجمهورية العراقية وتقسيمها الى ثلاثة أقاليم أو أكثر، وهو المشروع الذي تؤازره بكل قوة الحركة الانفصالية الكردية وتعززه وتقوي شوكته عمليات الاستيلاء على حقول النفط الغنية في المناطق التي تقطنها عدة أعراق أو تمتزج فيها فئات السكان من طوائف أو مذاهب مختلفة حيث راجت سياسة التهجير والتقتيل والتنكيل التي أفرزت دفقاً هائلاً من النزوح الجماعي الذي تجاوز معدله الشهري 30 ألف شخص. وكذلك منح عقود التنقيب عن النفط واستخراجه الى شركات متعددة الجنسيات أجنبية لن تدع لأهل العراق سوى الفتات من خيرات بلدهم (عدد 23 مارس/ آذار 2007 من مجلة الفايننشال تايمز ص 50). وكانت الولايات المتحدة قد أوعزت الى الحكومة العراقية كي تسمح للأكراد بالقيام بعمليات تطهير عرقي واسعة النطاق لطرد العرب بوجه خاص والتركمان أحياناً، حين تأمن البشمركة بطش تركيا في الآونة الراهنة. وبلغت حملات التطهير أوجها وأشرس طرقها في كركوك وغيرها من المدن المختلطة الأعرق في الشمال العراقي. ويقوم النظام الكردي الموالي للولايات المتحدة في شمال العراق بدوره كذلك بصفته قاعدة عمليات للانفصاليين الأكراد ووحدات الكوماندوز التي تناوش إيران وتتحرش بسوريا وتركيا رغم نفي الولايات المتحدة لهذه المعلومات.

*أستاذ علم الاجتماع في جامعة بنجامتون في نيويورك وأستاذ مساعد في جامعة سانت ماري في هاليفاكس بكندا