لا شك أن العملية الانتخابية بالمعنى السياسي العام تعتبر إحدى أوجه الممارسة الديمقراطية للعمل السياسي الميداني وبالتالي معرفة مزاج الشارع وإجراء استفتاء حول مسائل سياسية وتمثيلية الناخب والكتل السياسية الفاعلة في ساحة ما وذلك من خلال العملية الانتخابية تلك وممارستها في أجواء الحريات العامة والقوانين المدنية – الحقوقية لتمكين ممارسة الفعل الديمقراطي والمنافسة على الأصوات؛ أصوات الناخبين ليكون هناك تمثيل حقيقي وصادق عن الشارع الوطني في البرلمان بحيث يمثل كل المكون الاجتماعي في البلد من تمثيل الأعراق والطوائف والأديان وأيضاً الكتل والتيارات السياسية.

ولكن ومن دون توفير المناخ الديمقراطي الحقيقي وتهيئة الأجواء والأوضاع في بلدٍ ما مثل سوريا والذي يتطلب بدايةً إزالة العمل بقانون الطوارئ وحالة الأحكام العرفية والمعمول به منذ عام 1963 والذي جاء مع استلام حزب البعث للسلطة بحيث عطل الحياة السياسية في البلد وحولها إلى ما يشبه (كانتونة سياسية) – إن جاز التعبير – ومملكة سياسية لحزب البعث وذلك من خلال القانون السابق السيئ الصيت والذي أستدعى بالضرورة تعطيل القانون والدستور السوري والعمل به واستبداله بالمادة الثامنة والتي أضيفت إلى الدستور وتُجيز لحزب البعث التحكم والقبض على كل مفاصل الحياة السياسية في البلاد من خلال مقولة؛ "حزب البعث يقود المجتمع والدولة" وبالتالي إلغاء الحريات العامة السياسية وعدم السماح للأحزاب الأخرى من أن تلعب وتأخذ دورها في النشاط الميداني السياسي في الشارع السوري لعدم وجود قانون للأحزاب ينظم الحياة السياسية في البلد.

وكذلك الأمر بالنسبة لكل ما يتعلق بحرية الرأي والكلمة والتعبير ومنع كل نشاط فكري – سياسي ثقافي عام لا ينسجم مع رؤية حزب البعث والفكر الأيديولوجي القومي المتشدد له؛ حيث كل الطاقات والإمكانيات مسخرة لهذا النهج والفكر السياسي في البلد وكل وسائل الإعلام تروج له وبالمقابل هناك حرمان ومنع للتيارات والقوى الأخرى من أن تعمل لكي توصل صوتها إلى الشارع السوري، حتى بإمكانياتها المتواضعة والمحدودة. بل بات من العرف السياسي بأن مصير كل من يخرج عن (عباءة) فكر البعث والنظام هو الاعتقال؛ حيث ما زال ملف الاعتقالات السياسية مفتوحاً في سوريا ومنها معتقلي أبناء الشعب الكوردي ومنذ سنوات والكثر منهم كانوا وما زالوا من الأحداث ودون محاكمات حقيقية و(أدلة تدينهم)، بل على أساس تهم باطلة وجاهزة في ملفات محكمة أمن الدولة العليا؛ وخاصةً عند محاكمة الكورد و(اتهامهم) بـ"العمل من أجل اقتطاع جزء من الوطن وإلحاقه بدولة أجنبية" ومن دون التجرؤ وتسمية تلك الدولة.

وهكذا ومن خلال هذه الأجواء السياسية العامة والتي يعيشها المواطن السوري بكورده وعربه وباقي المكونات العرقية، يُدرك ما معناه أن كل الجهود من أجل تكريس حالة العطالة والإبقاء على الحالة السلبية السياسية في البلد والترويج للفكر الواحد والحزب الواحد والسلطة الأمنية المتشددة و(الواحدة).

أما ما يتعلق الأمر بالنسبة لشعبنا الكوردي والذي يمثل بحدود 15% من سكان سوريا – وكذلكً بالنسبة لبقية المكونات الاجتماعية السياسية والدينية المذهبية الأخرى في البلد ولو بحدود أقل – فلا قانون ينظم تلك القضايا والمسائل (أي قضايا القوميات والأقليات العرقية في سوريا)؛ حيث عدم الاعتراف الدستوري بالتعدد الإثني في البلاد وبأن الشعب الكوردي يمثل ثاني قومية في البلد ويعيش على أرضه التاريخية وبالتالي حرمانه من أبسط حقوقه القومية المشروعة والعادلة ومشاركته في إدارة شؤون البلد بحسب حجمه السكاني الديموغرافي وأيضاً إدارته للمناطق الكوردية ذاتياً، إضافةً إلى إجراء العديد من القوانين والإجراءات الاستثنائية بحقه من الحزام العربي وتعريب المناطق الكوردية وقانون الإحصاء والذي جرد جزء من المواطنين الكورد من الجنسية السورية – حالياً حوالي ربع مليون إنسان كوردي مجرد من حق المواطنة – وبالتالي حرمانهم من كل حقوق المواطنة السورية وتغييبهم عن المشاركة في أي نشاط سياسي وطني فاعل ومنها مسألة الانتخابات.

بالإضافة إلى العديد من الممارسات والأفعال والأعمال الغير مقبولة واللاقانونية والتي تشدد من القبضة الأمنية في المناطق الكوردية وبالتالي تزيد من حالة الرعب والخوف لدى جماهير شعبنا الكوردي وخاصةً لدى تلك الشرائح الريفية البسيطة مما تخلق نوع من العطالة السلبية تجاه كافة القضايا الوطنية والديمقراطية والحقوقية في البلد وفي بعض الأحيان التنكر لحالة الانتماء الحضاري للشعب والجغرافية الكوردية.

وهكذا وفي ظل هذه الأجواء والمناخات جاء ما يمكن تسميته بعام الانتخابات والاستفتاءات في سوريا؛ حيث هناك كلٍ من انتخابات البرلمان (مجلس الشعب) والإدارة المحلية وكذلك هناك الاستفتاء على مسألة الرئاسة للرئيس لأجل فترة رئاسية مقبلة. وبالتالي فسيكون هناك ورشة عمل – كما يقال – وعلى مدار السنة من أجل هذه الفعاليات الثلاثة والتي سوف تجرى في ظل الأجواء السياسية، التي تطرقنا إليها قبل قليل، والتي لم تتغير منذ ما عرف بالقوائم المغلقة لما يعرف بالجبهة الوطنية التقدمية حيث هيمنة حزب البعث المطلقة عليها فكراً وممارسةً، نهجاً وسلوكاً وذلك على الرغم من (الهامش الديمقراطي) وقوائم الظل والتي تعرف بـ(قوائم المستقلين) والذين هم حقيقةً بعثيين أكثر من البعث. نعم.. في هذه الأجواء وفي ظل غياب أية قوانين شفافة ديمقراطية بحيث تنظم الحياة السياسية والبرلمانية في البلد وأيضاً وفي ظل هيمنة الحزب الواحد وغياب المنظمات الحقوقية المدنية الداخلية والدولية من مراقبة هذه الانتخابات وشفافيتها ونزاهتها، وكذلك حرمان جزء كبير من أبناء شعبنا الكوردي من المشاركة نتيجة تجريدهم من الجنسية والمواطنة السورية إضافة إلى عدم الاعتراف بالكورد أساساً في الدستور كمكون أساسي للمجتمع السوري ناهيك عن الاعتراف بالجغرافية والمناطق الكوردية على أنها ذات خصوصية حضارية تاريخية ثقافية وأيضاً جغرافية وكذلك وغيرها من الظروف والمسوغات والتي تجعل كل مشاركة في أي عمل سياسي نوع من (الضحك على الذقون) وعمل مفرغ من مضمونه الحقيقي؛ ألا وهو إيصال أكبر عدد ممكن من المرشحين عن الكتل السياسية المختلفة إلى البرلمان ليكون هناك تمثيل حقيقي لجميع مكونات الشعوب السورية وأطيافها المختلفة، أتت مسألة الانتخابات ومن أي تغيير حقيقي للمناخ السياسي العام في سوريا ليكون مساعداً في إجراء هذه العملية الانتخابية ولذلك جاء قرار قوى (إعلان دمشق) للتغيير الديمقراطي وكذلك قرار الحركة الوطنية الكوردية ومن خلال بيان وقع عليه الأحزاب والفعاليات الكبرى في الساحة السياسية الكوردية وتعلن مقاطعتها للانتخابات البرلمانية ترشيحاً وتصويتاً.

ولكن بيانات المقاطعة هذه ما هي مدلولاتها وتأثيرها على الناخب السوري، إن كان لقوى إعلان دمشق أو مجموع الكتل والأحزاب الكوردية، وكيف سيترجم (مضمون البيان) عملياً في الشارع السوري عموماً والكوردي على وجه التحديد وخاصةً هناك قوى كوردية فاعلة ونشطة؛ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) مثلاً سوف يشارك في هذه الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً ومن دون التنسيق مع بقية الفصائل الكوردية – وللأسف، مما تجعل من المرجعية الكوردية ضرورة قومية استراتيجية – وذلك للخروج بصيغة عمل مشترك أو التوافق حول آليات معينة، إضافةً إلى حالة النفور من مجمل أطراف الحركة الوطنية الكوردية وأحزابها وخاصةً بعد الانقسام الذي كان في نوروز هذا العام بين تلك الأطراف وتحديداً "خروج حزب الوحدة عن الإجماع السياسي الكوردي" ومن دون إلزامه (أي إلزام حزب الوحدة) من قبل أطراف وأحزاب ذاك الإجماع لتبيان خروجه ذاك وتقديم (الأعذار)، بل الاعتذار أولاً وأخيراً للشعب الكوردي عن (تصرفه) ذاك ومن ثم محاولة تلافي آثار وتبعات تلك الحالة والتي زادت من تيأيس الشارع الكوردي، لا أن يكافأ (أي حزب الوحدة) من قبل الإجماع وبعد أيام من خروجه وذلك بالتوقيع معه على بيان المقاطعة المشترك هذا للانتخابات العامة؛ حيث برأينا جعل من كل الإجماع السياسي الكوردي ومصداقيته في شكٍ من أمره لدى الشارع الكوردي. وكذلك لا ننسى دور وتأثير المرشحون المستقلون والذين يرتبطون بعلاقات عائلية – عشائرية ومادية – مصالحية مع أوساط وقطاعات واسعة في المجتمع والبيئة الكوردية والتي ستدفع بجموع لا بأس بها إلى صناديق الاقتراع، ناهيك عن الدعاية الإعلامية والإعلانية للنظام وأجهزتها لتعبئة الشارع وبأساليب الترغيب والترهيب لدفع المواطنين إلى تلك الصناديق وإن كانت لا تهمها الأصوات في النهاية ولربما ستكون هناك القوائم الجاهزة كما في الدورات السابقة.

إننا نذكر بهذه الظروف والشروط لا تبريراً للقوى والأحزاب الكوردية أو لقوى (إعلان دمشق) لعدم قدرتها – مستقبلاً – على ترجمة بيان المقاطعة والتي وقعت عليه وبالتالي جعل مراكز الاقتراع خاوية إلا من تلك الصناديق الخاوية وبعض ممثلي المرشحين البائسين، ولكن لاستبيان الحقائق والوقائع وأيضاً لدفع قوى (إعلان دمشق) والحركة الوطنية الكوردية بجموع أحزابها وكتلها السياسية إلى المزيد من القراءات المنطقية والوقائعية وبالتالي الاعتراف بحالة الضعف والوهن التي تعيشها لتستدرك حالتها وتعمل على معالجتها بأسرع الأوقات وذلك من خلال تلافي نقاط ضعفها؛ إن كانت المتعلقة منها ببرامجها السياسية وأهدافها القريبة والبعيدة أو بأساليب نضالها وعملها بين الجماهير الكوردية أو التي تتعلق بعلاقاتها السياسية مع القوى والأطراف الأخرى، إن كانت في السلطة أو المعارضة وأيضاً علاقاتها الداخلية بين القوى والأحزاب الكوردية نفسها. ولكن وعلى الرغم من كل هذه القضايا فعلى القوى التي قاطعت هذه الانتخابات ومنها الحركة الوطنية الكوردية وقواها الفاعلة أن تعمل بجد ومصداقية لتترجم كلامها (بيانها) على أرض الواقع ولو أن هذه المقاطعة تحمل مدلولاً سياسياً أكثر من أن يكون عملاً ميدانياً جماهيرياً.