تخطئ المؤسسات الفكرية والأكاديمية الأميركية إذا سمحت لغضبها من حرب جورج دبليو بوش في العراق أن يعميها عن أدوار ضرورية لها في صوغ سياسة أميركية صحيحة وتصحيحية وذكية نحو منطقة الشرق الأوسط. بعضها يأخذ على عاتقه تسويق «خطب الود» كوصفة لخروج القوات الأميركية من العراق وينتقد الرئيس الأميركي لرفضه الانخراط في خطب ود سورية وإيران بالذات. البعض الآخر يقفز كلياً على متطلبات إقامة شراكة مع صفوف الاعتدال الشعبية والحكومية لتشكيل أهم حلقة من حلقات إلحاق الهزيمة بقوى التطرف والإرهاب في العراق وفي الساحة العربية والإسلامية أجمع. هذا البعض يرفض، تلقائياً، كل ما من شأنه أن يضع إسرائيل تحت المجهر، وأن يعرضها لضغوط لا بد منها إذا كانت الولايات المتحدة جدية في تصحيح علاقتها مع المنطقة العربية والعالم الإسلامي وفي حماية مصالحها الوطنية.

يخترع هؤلاء كل ذريعة ومبرر لإعفاء إسرائيل من المحاسبة على تجاوزاتها ولإعفائها أيضاً من متطلبات صنع السلام. هناك من يلجأ إلى تفعيل المفاوضات الثنائية بين سورية وإسرائيل لتنفيس الضغوط الدولية الهادفة الى تحقيق اختراق في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، ومن أجل اطلاق رصاصة الاحباط على المبادرة العربية للسلام التي أعادت وضع المسألة الفسطينية في الصدارة.

هناك من يغض النظر عمداً عن الأهمية الحاسمة لإقامة محكمة دولية تنهي زمن اللاعقاب لنمط الاغتيالات السياسية، وهو بذلك يطعن في نفسه أخلاقياً. فإنشاء هذه المحكمة بات مفتاح الديموقراطية والمحاسبة والشفافية ليس فقط للبنان، وإنما للمنطقة العربية أجمع، عكس ما يتصوره أو يدعيه المتفلسفون من الخبراء والسياسيين بأن حرب العراق كانت من أجل الديموقراطية. ثم هناك دعاة خطب ود الجمهورية الإسلامية في إيران - وهم كثر - بعضهم يروّج لصفقة معها تجنباً لمواجهة عسكرية أو لامتلاك قدرات نووية، وبعضهم يتحدث الآن عن ضرورة تقوية المرشد آية الله علي خامنئي والسياسي المخضرم الرئيس الاسبق علي أكبر رفسنجاني ليتمكنا من إطاحة الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد، وكأن ازاحته من المنصب هي مفتاح الخلاص الأميركي من العراق. هذه البدعة الخطيرة تتجاهل ما يمثله هذان الرجلان من إطاحة الديموقراطية ومن تعزيز الجيوب الشخصية ومن قمع لأي توجهات إيرانية شعبية معاكسة.

الانتفاضة الأميركية ضد حرب العراق أتت متأخرة، علماً بأن الرأي العام والإعلام والكونغرس والحزبين الجمهوري والديموقراطي لم يدققوا في جر الولايات المتحدة الى هذه الحرب في زمن الإعداد ووضع الخطط والمبررات لها. ما يحدث الآن هو شبه انتفاضة على النفس، كما ضد إدارة جورج دبليو بوش بسبب ما أسفرت عنه هذه الحرب من تعرية للنمر الأميركي، ومن حكايات مخجلة عن ممارسات في صفوف الجيش الأميركي، إلى جانب خسارة الأرواح والسقوط في مستنقع الاحتلال ودوامة الحرب الأهلية.

الليبراليون والديموقراطيون والجمهوريون الغاضبون من المحافظين الجدد الذين يغسلون أيديهم اليوم من فشل حرب العراق، كلهم يرجمون جورج دبليو بوش بالحجارة متناسين تماماً ادوارهم المختلفة التي تمثلت إما بالصمت أو بالتصويت مع الحرب، أو بعدم ممارسة مسؤولية معارضة الحرب وقطع الطريق على المحافظين الجدد وعجرفتهم القاطعة.

إنهم يزايدون على تناسيهم عمداً ما فشلوا في القيام به عندما كان الأمر مصيرياً لو عارضوا حقاً وفعلاً الاندفاع الى الحرب بذرائع مختلفة. فعندما تتحول المسألة إلى كراهية للرئيس من دون محاسبة النفس، يبدو كل شيء قابلاً للمعارضة طالما يلاقي الموافقة من جورج دبيلو بوش. وفي الحقيقة، ان في هذا التصرف الكثير من الصبيانية. فكما لم تتحمل هذه القطاعات مسؤولياتها قبل الحرب التي دخلها صانعوها باسم الانتقام، فإنها لا تمارس الآن مسؤوليات التدقيق العميق في كيفية الخروج من الحرب بالقدر الممكن من العقلانية. ولذلك انها تنادي بخطب ود سورية وإيران وكأنه العصا السحرية.

ليت طهران جاهزة لتقبل خطب الود لأنها، لو كانت جاهزة لربما تريح المنطقة من مآس مزدهرة في العراق، وآتية لربما الى لبنان بقرار من الجمهورية الإسلامية في إيران. واقع الأمر أن المؤسسة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية تريد استعادة الحكم والشعبوية من الرئيس الذي خلع القفازات البيضاء وأزاح ستار التظاهر وعرّى بذلك الوجه الحقيقي للحكم في إيران. إنها معركة داخلية بين أقطاب الحكم ذاته، في ضوء حشد الاجماع الشعبي والحكومي في خانة «حق» إيران في امتلاك القدرات النووية التي تزعم الحكومة أنها حصراً لغايات سلمية تنموية على رغم اصرارها على تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم.

هذا الخلاف الداخلي ليس حول أسس السياسة الخارجية، ولا هو حول هوية الحكم في الجمهورية الإسلامية. إنه ليس حول كيفية تصحيح العلاقة مع الولايات المتحدة، ولا هو في شأن تسهيل الخروج الأميركي المرغوب به أميركياً من العراق. المؤسسة التقليدية الحاكمة في ايران ليست أقل حماساً لدعم «حزب الله» في لبنان من محمود أحمدي نجاد، ولا هي أقل سخاء في تحويل الأموال والأسلحة إلى «حزب الله» عبر سورية وغيرها من الرئاسة والحرس الثوري.

ما لا يريده أقطاب المؤسسة التقليدية الحاكمة، وعلى رأسهم رفسنجاني، هو ان يؤدي استدعاء أحمدي نجاد لضربة عسكرية على ايران الى خسارة مالية كبيرة لهم شخصياً. أحمدي نجاد لم يدخل «نادي» استفادة الكبار الشخصية من الحروب ومن «ممارسة» الوطنية والقومية، لذلك فإنه يستخدم السياسة الخارجية لتعزيز أوضاعه الداخلية السياسية وليس المالية. بل انه يعكر مياه خامنئي ورفسنجاني واتباعهما لأنه يستخدم الغباء المصطنع ويكشف عما سعت هذه الطبقة من المؤسسة الحاكمة في الجمهورية الاسلامية الى التظاهر بعكسه، وهو أنها من عجينة وطنية مختلفة، فيما الاختلاف هو حقاً فقط في الأساليب وليس في طبيعة الحكم في ايران وتوجهاته.

بعض اقطاب دعاة حرب العراق راهن على رفسنجاني بصفته الشريك الطبيعي لامتداد «بترولستان» من شرق السعودية الى العراق الى ايران. لكن وصول أحمدي نجاد الى السلطة وضع العصا في دواليب فلاسفة حرب العراق الذين أرادوا اندلاع الحرب الطائفية لتخدم غايات التقسيم والشرذمة، واعتقدوا ان رفسنجاني أفضل رعاة الشراكة الصامتة مع اسرائيل في العلاقة التهادنية الايرانية - الاسرائيلية والأميركية - الايرانية. أحمدي نجاد استخدم المسألة الاسرائيلية لفضح رفسنجاني همساً بما يعزز موقع احمدي نجاد داخلياً وبما يوسع شعبيته اسلامياً وضد الأنظمة العربية.

اسقاط الأنظمة العربية يشكل قاسماً مشتركاً بين الثورة الايرانية - وعلى رأسها آية الله الخميني وخامنئي ورفسنجاني وأحمدي نجاد - وبين المحافظين الجدد الذين ادعوا الرغبة بنشر الديموقراطية. لكن حرب العراق اسفرت عن تعزيز معظم الأنظمة العربية كما قدمت أكبر الخدمات الى اسرائيل وايران بإزالة العراق من المعادلات الاستراتيجية مع كل منهما. والآن، وفي زمن الغضب الاميركي من هذه الحرب وكلفتها، فإن المستفيدين منها يريدون التظاهر بأنهم الضحية. وهنا تكمن خطورة المواقف التي يتبناها البعض في الساحة الاميركية.

أحد الخبراء الشباب المتحمسين للخروج بأفكار مختلفة وجديدة في خضم غياب الخيارات الاميركية في العراق وايران أتى ببدعة جديدة اساسها تقوية رفسنجاني وخامنئي كي يتمكنا من سلب احمدي نجاد السلطة. هكذا في رأيه، يتم سحب البساط من تحت أقدام «حزب الله»، وهكذا يمكن مخاطبة الصين وروسيا بلغة المصالح بحيث تعطي الصين ضمانات في ميدان الطاقة وتعطي روسيا ضمانات في ميدان تطوير البرنامج النووي السلمي لايران كما في ميدان اعادة التسليح. وهكذا يكون في الإمكان ايجاد صيغة انقاذ ماء الوجه للخروج الأميركي من العراق.

هكذا بصفقة مع رفسنجاني وخامنئي للإطاحة بمحمود أحمدي نجاد، يأتي الخلاص، حسب هذا الرأي.

هذه الفكرة صبيانية الى حد ما وخطيرة الى حد أكبر إلا إذا كانت قائمة على ضمانات مسبقة من معسكر خامئني - رفسنجاني لجهة الطموحات النووية والاقليمية للجمهورية الاسلامية.

صبيانية وخطيرة، أولاً لأنها توقع الولايات المتحدة في فخ مزايدات السياسيين الايرانيين المحنكين ولن تخرج منتصرة منها مهما فعلت، بل ان تقوية معسكر على حساب آخر داخل المؤسسة الحاكمة في الجمهورية الاسلامية يعني دخول الولايات المتحدة مجدداً طرفاً في انقلاب في ايران، انما من نوع آخر. إضافة الى ذلك، ان تقوية اي جناح في الجمهورية الاسلامية بمشاركة اميركية فاعلة يعني خيانة أخرى لوعود الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط. فهناك في ايران من سينظر الى الولايات المتحدة على أنها الخائن الأكبر لو تبنت فكرة تقوية معسكر خامنئي - رفسنجاني للتسلط على الحكم بما يرسخ حكم الملالي الاستبدادي للنساء والحريات والديموقراطية باسم التخلص من ظاهرة محمود أحمدي نجاد، وكأن هذه الظاهرة هي المشكلة برمتها، وكأن التطرف يقتصر على احمدي نجاد فيما الجناح الذي يدعي الاعتدال هو حقاً متطرف بقدر أحمدي نجاد نفسه.

مهم للمؤسسة التقليدية الحاكمة أن تكبح جماح الرئاسة الثورية والاعتباطية، لكن اكتسابها الثقة يعتمد الآن على تقدمها بضمانات في المجالين النووي والاقليمي، وفي إطار الحريات الداحلية، فإذا كان داخل المؤسسات الفكرية والأكاديمية الأميركية مَن يعتقد أن خطب ود طهران هو مفتاح الفرج، فعليهم أن يفكروا بأوسع من حلقة عدم موافقة رفسنجاني - خامنئي مع نفي أحمدي نجاد نجاح محرقة الهولوكوست أو حلقة الغضب من سياسات جورج دبيلو بوش في العراق.

فهناك رائحة تقسيم للأدوار الإيرانية في العراق إلى جانب التنافس بين القيادات الإيرانية على كيفية التصدي للولايات المتحدة في العراق، وفي الوقت ذاته عدم دفعها إلى الانسحاب الفوري أو القريب منه. فإيران، بشقي الرئاسة والمؤسسة التقليدية، لا تريد انسحاب القوات الأميركية، لأن هذه القوات تقوم بمهمات عوضاً عنها، تؤدي الى تأمين موازين القوى الموالية لطهران. فالانسحاب الأميركي الآن يترك العراق جاراً خطيراً لإيران يهدد اللااستقرار فيه الطموحات الإيرانية الاقليمية ويقيد ايديها وقد يهدد الجمهورية الإسلامية برمتها إذا ورثت حرب العراق، فيما اقتصادها في تدهور وانهيار. وعليه، أن أحد الخيارات المتاحة في إطار العراق ونحو إيران ليس القيام بعمل عسكري يعزز الجمهورية الإسلامية، وإنما الانسحاب العسكري من العراق وإعادة التمركز على متن حاملات الطائرات.

فإذا كانت المؤسسة التقليدية في ايران راغبة في صفقة تعاون وتفاهم مع الولايات المتحدة، يجب أن تشمل هذه الصفقة العراق ولبنان وفلسطين، إلى جانب التفاهمات على المسألة النووية. وفي هذا الإطار، يجب على دعاة خطب الود أن يفهموا مركزية علاقات الولايات المتحدة مع صفوف الاعتدال العربية، الحكومية والنخبوية والشعبية، بدلاً من الانسياق إلى ارضاء طهران وحلفائها، وبدلاً من القبوع في ظل الخوف الدائم من التطرق إلى إسرائيل وأهمية حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.

فالمستفيدان الكبيران من حرب العراق، أي إيران وإسرائيل، عليهما دين للولايات المتحدة يجب أن يُسدد، لأن استفادة كل منهما من حرب العراق ضخمة. والآن، وبما أن المصلحة الأميركية الوطنية مهددة بسبب هذه الحرب، يجب على دعاة خطب الود ان يدعموا السياسة الاميركية عندما تكون سياسة جيدة بدلاً من الترفع عن التدقيق في فوائدها للمصلحة الأميركية الوطنية لمجرد أنها سياسة لإدارة جورج بوش. المبادرة العربية للسلام مع اسرائيل التي صدرت عن قمة الرياض الشهر الماضي مثال. فإدارة بوش تدعم هذه المبادرة شأنها شأن الأكثرية الساحقة من حكومات العالم، لكن المؤسسات الفكرية ودعاة خطب الود بمعظمهم يضربون بعرض الحائط هذه المبادرة الفائقة الأهمية ويختزلونها الى مجرد استحالة إدارة «البطة العرجاء» صنع سياسة اميركية خارجية رئيسية نحو اسرائيل في السنتين الأخيرتين لها وفي خضم انتخابات مبكرة.

في هذه المواقف نوع من الافلاس سيما وان ما تتطلبه معالجة المسألة الفلسطينية - الاسرائيلية واضح للجميع، والاستمرر في حماية اسرائيل من السلام واستحقاقاته سيكلف الولايات المتحدة غالياً ليس فقط في حرب العراق وانما ايضاً في الحرب على الارهاب. واسرائيل نفسها ستدفع ثمناً غالياً اذا استمرت في رفض صنع السلام تارة بحجة ضعف الحكومة والزعم انها غير قادرة على تنازلات وتارة بغطرسة قوة حكومة لا تريد سوى الإملاء. فقد يأتي وقت تقول فيه صفوف الاعتدال لاسرائيل: كفى. اننا نغسل أيدينا من محاولات صنع السلام. والساحة مفتوحة الآن بينك وبين التطرف. بحيث لم يعد الاعتدال يشكل منطقة فاصلة.

بكلام آخر، ان المؤسسات الاميركية الفكرية والسياسية والاعلامية مطالبة بأن تتحمل مسؤولياتها نحو ما تتطلبه حماية المصالح الوطنية الأميركية بعقلانية وجرأة بدلاً من تقنين مساهماتها في الغضب من بوش، أو في خطب ود سورية وايران، أو في دعم اسرائيل بصورة عمياء من دون تدقيق ومحاسبة. فما يجري مثلاً على الساحة اللبنانية يلقى اهتمام المؤسسات والاعلام الاميركي بصورة عابرة من دون فهم أبعاد أحداث لبنان على العلاقات الاقليمية وعلى مستقبل الديموقراطية وعلى ضرورة انهاء عهد اللاعقاب. ما يجري في لبنان مؤشر واضح على اختلاف سياسة جورج بوش عن السياسة التي اتبعها في العراق، إذ انه نحو لبنان يعمل في إطار التوافق الدولي، فيما نحو العراق عمل في إطار التفرد. وهذا ما يفوت الغاضبين ومعسكر خطاب الود في الساحة الاميركية، يفوتهم التمييز بين السياسات ويعميهم الغضب عن التفكير بعقلانية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)