مكانة الإسلام في المجتمع هي الموضوع المتداول في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في بلدين مهمين هما فرنسا وتركيا، في الأيام القليلة القادمة.

لقد تمت تسمية وزير الخارجية عبدالله غل المحافظ المتدين التقي الذي يبلغ من العمر 56 عاماً، لمنصب رئاسة الجمهورية التركية، من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبات في حكم المؤكد أن البرلمان التركي سيصادق على هذه التسمية يوم الجمعة القادم، وقد أثارت هذه التسمية مخاوف الليبراليين الأتراك الذين يخشون على التراث العلماني الذي تركه مصطفى كمال أتاتورك من الاندثار.

إن القصر الرئاسي في تشانكايا الذي سكنه للمرة الأولى أتاتورك مؤسس الجمهورية بقي باستمرار «قلعة علمانية»،غير أن مجيء مسلم ملتزم، ومعه زوجته خير النساء التي ترتدي الحجاب، للإقامة في القصر، سيحدث ما يمكن أن يسمى «ثورة» في الحياة العامة التركية.

أما في فرنسا، فإن نيكولا ساركوزي الذي نال أعلى الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لا يتستر على كراهيته للإسلام السياسي، ولا على كراهيته للعرب والمسلمين عامة - هذا إذا شئنا أن نسمي الأشياء بأسمائها -، وبخاصة حينما يتجلى هذا الإسلام في تحركات الشباب الغرباء عن مجتمعهم والآتين من شمال أفريقيا والذين يسكنون ضواحي باريس والمدن الفرنسية الأخرى.

إن ساركوزي يعارض، غريزياً، دخول تركيا التي يشكل المسلمون 99 في المئة من سكانها إلى الاتحاد الأوروبي. وهو المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية الفرنسية الذي جاهر بموقفه هذا بمنتهى الوضوح والصراحة. وإذا فاز في الانتخابات الرئاسية فإن مفاوضات تركيا مع المفوضية الأوروبية في بروكسيل سوف تتعثر إلى حد كبير بسبب الرفض الفرنسي.

ومن المؤكد أن معاناة ساركوزي مما يسمى بـ «الخوف من الإسلام» أو «الإسلاموفوبيا» أثارت إعجاب غلاة اليمينيين من الناخبين. وحينما فجر أحد الاستشهاديين نفسه في وسط الجزائر في 11 نيسان الجاري طالب ساركوزي في مقابلة إذاعية «بشن حرب بلا هوادة على خلايا الإرهاب».

ولم يعد سراً أن ساركوزي امتدح الجيش الجزائري لإلغائه الجولة الثانية من الانتخابات الجزائرية العامة عام 1992، وحال ذلك دون وصول حزب إسلامي هو جبهة الإنقاذ الى الحكم، إذ نقل عنه قوله: «كانت الجزائر في منتهى الشجاعة حينما أوقفت العملية الديموقراطية، ولو أن الجيش لم يتحرك لقام نظام في الجزائر يشابه نظام طالبان» ولكن ساركوزي تناسى أن يذكر أن ما أقدم عليه الجيش الجزائري قد فجر حرباً أهلية استمرت عشر سنوات منذ عام 1990 وتسببت في مقتل ما يقارب المئة ألف شخص، وما العملية الانتحارية التي جرت هذا الشهر في العاصمة الجزائرية إلا الدليل القاطع على أن هذه الحرب لم تنته بعد.

وحين تتحدث مرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين رويال عن فرنسا فتقول عنها بأنها بلاد متعددة الأجناس، يصرخ ساركوزي قائلاً «بأن المهاجرين الذين لا يحبون فرنسا ينبغي أن يرحلوا فوراً» إلى بلادهم وإذا ما تم انتخابه للرئاسة فسيعمد إلى استحداث وزارة جديدة هي «وزارة الهوية الوطنية والهجرة»، وتعتبر هذه الخطوة منه بمثابة تحذير موجه إلى مواطني أفريقيا الشمالية والأفارقة السود بأن الدخول إلى فرنسا لن يكون سهلاً كما كان في السابق.

لقد حصل ساركوزي، المرشح اليميني في انتخابات الرئاسة الفرنسية على 31.11 في المئة من الأصوات مقارنة بـ25.83 في المئة لمنافسته الاشتراكية رويال، في حين حصل مرشح الوسط فرانسوا بايرو على 18.5 في المئة فكان ترتيبه الثالث.

إن المرشحين اللذين فازا بالأكثرية - ويسميهما الفرنسيون ساركو وسيغو - سيتنافسان في الأيام القليلة المقبلة على اجتذاب ناخبي زعيم الوسط فرنسوا بايرو في الجولة الثانية من الانتخابات التي ستجري في 6 أيار (مايو) المقبل، وسيحاول ساركوزي أن يقتنص الأصوات من الجبهة الوطنية التي يترأسها جان ماري لوبن الزعيم اليميني المتطرف الذي لم يحصل إلا على 10.5 من الأصوات، بسبب مزاحمة ساركوزي له، وتأمل سيغولين أن تحصل على أصوات الناخبين الذين صوتوا للأحزاب اليسارية والذين تجاوزت نسبتهم 9 في المئة في الجولة الأولى من الانتخابات.

يجيد ساركوزي فن إدارة الحملات الانتخابية بمهارة وبراعة، ويمتاز بنشاطه المفرط، وبإتقانه فن الحوار والخطابة بسبب ممارسته للمحاماة، ولكنه سريع الغضب وحاد المزاج ويبالغ في طموحاته، وهذه كلها نقاط ضعف في شخصيته، في حين تمتاز سيغولين بجمالها ووداعتها وقدرتها الفائقة على التحكم بأعصابها ولكنها تفتقر في حملتها الانتخابية إلى طاقم حزبي متدرب كالطاقم الذي يعمل مع منافسها ساركوزي، ويبدو أن الاشتراكيين منقسمون وتكثر بين زعمائهم المشاحنات، بعكس حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» - وهو الاسم الجديد للحزب الديغولي - الذي يجمع بين صفوفه تمجيد قائده البطل ساركوزي.

إن المنافسة بين المرشحين، ساركوزي وسيغولين ما زالت مفتوحة، ولا يمكن التهكن بنتائجها منذ الآن، ولا الجزم بأن فوز ساركوزي مضمون، أو أن خسارة سيغولين مؤكدة. إن الناخبين الفرنسيين الذين لم يحسموا خيارهم بعد يخافون من وصول ساركوزي إلى الرئاسة، وهؤلاء يمكن أن ينتخبوا سيغولين في اللحظة الأخيرة.

ومما لا شك فيه أن تكريس صورة ساركوزي «كرجل أمن صلب» قد ساعدته كثيراً في التقدم والصعود. لقد نجح، كوزير للداخلية خلال السنوات الأربع الأخيرة في تكوين صورته الرهيبة كرجل قاس يدافع عن النظام والقانون، وكان شباب الضواحي «الجانحون» يهابونه ولا يتوقعون منه أي ليونة أو رحمة، وليس صدفة أن المهاجرين وأولادهم في الضواحي يعتبرونه عدوهم اللدود، وهذا ما دفعهم إلى التصويت لمنافسته سيغولين بكثافة.

ولكن سيغولين، رغبة منها في ألا تظهر أكثر ليونة من منافسها في مكافحة الجنوح والجريمة قد ارتأت بأن ترسل الشباب الذين يثيرون الاضطرابات إلى معسكرات التدريب العسكري، وفي ما عدا هذا الاقتراح تظل سيغولين حريصة على أن تبدو أكثر ليونة وأكثر اهتماماً بشؤون الناس ومعاناتهم من ساركوزي.

إن ساركوزي، في سعيه إلى النجاح في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة وزع صوراً له وهو يزور ضريح الجنرال شارل ديغول ولكن آراءه الموالية للولايات المتحدة وإسرائيل بعيدة كل البعد عن الديغولية، بل إنها توحي، على العكس تماماً، بأنها ستكون متعارضة مع آراء الرئيس جاك شيراك الذي سيغادر قصر الاليزيه، وبهذا المعنى يمكن القول إن سيغولين رويال هي أكثر ديغولية من ساركوزي خاصة حينما صرحت أخيراً: «إننا لن نحني رؤوسنا، ولن نركع لجورج بوش!»

أما في تركيا، فإن المفارقة الكبرى تتجلى في كون حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، والمتجذرة في التقاليد الإسلامية المحافظة، كانت أكثر انفتاحاً وتقدمية وفعالية في تحريك الاقتصاد والمجتمع التركيين من كل الحكومات العلمانية السابقة، وأثبت أردوغان أنه زعيم سياسي ناجح تمكن من تحقيق الازدهار للاقتصاد التركي ومضاعفة مردوده خلال السنوات الخمس من حكمه.

ومن المعروف أن أردوغان كان يطمح إلى أن يكون رئيساً للجمهورية ولكنه قرر في الأسبوع الماضي أن يتخلى عن هذا الطموح وأن يسمي صديقه وزميله القديم عبدالله غل للرئاسة، ويبدو أنه اتخذ هذا القرار بعد التظاهرة الحاشدة الكبيرة التي قام بها العلمانيون احتجاجاً على تسميته كرئيس للجمهورية والتي انتهت بالتجمع حول ضريح أتاتورك في العاصمة التركية.

ومن المحتمل أن يكون قد اتخذ قراره كي لا يستفز الجيش الذي يفاخر بأنه الحارس الأمين للتراث الأتاتوركي. وكان رئيس أركان الجيش التركي الجنرال يسار بويوكانيت قد أعلن في تصريح جديد له أنه يأمل، كمواطن وجندي، «أن يتم اختيار رئيس جمهورية يلتزم بقيم الجمهورية الأساسية، بالأفعال لا بالأقوال»، وأضاف: «ومهما يكن من أمر فإن الجيش لن يتحرك إلا في حدود القانون».

وقد فسرت أقوال رئيس الأركان على أنها تعني «أن الجيش لن يقوم بانقلاب، كما فعل حينما أطاح رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان الذي كان أكثر وضوحاً في التزامه الإسلامي، وأن الجيش سيكتفي بمراقبة أداء الرئيس الجديد بعيون يقظة. وقد ذهب رئيس الجمهورية التركي الذي تنتهي ولايته أحمد نجدت سيزر أبعد من هذا، وهو معروف بعلمانيته الراسخة، حينما قال: «إن نظام تركيا العلماني يواجه اليوم أكبر تهديد له منذ قيام الجمهورية التركية عام 1923».

ومن الواضح أن أردوغان قد تأثر إلى حد بعيد بالحملة القاسية التي لا تخلو من تهديد ضده، ومن الجائز أن يكون قد أراد أن يبقى في منصبه كرئيس للوزراء ليتمكن من أن يشرف على الانتخابات العامة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وأن يمكن حزبه من البقاء في السلطة.

وهكذا سيكون بوسع حزب العدالة والتنمية المعتدل الذي يسيطر على الحكومة والبرلمان أن يسيطر على رئاسة الجمهورية أيضاً، وهذا تطور يثبت احتكار الحزب الاستثنائي لكل مفاصل السلطة. إن أردوغان والموالين له مصممون على أن يبرهنوا للغرب أن مخاوفه باطلة، وأن هناك الكثير من المكاسب التي يمكن الحصول عليها من حكومة إسلامية معتدلة في بلد أساسي ومهم كتركيا.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)