لما يقرب من 50 عاماً، ظل الأميركيون ينظرون إلى الدول الشيوعية على أنها كتلة متراصة، قادرة على العمل كوحدة واحدة من أجل خدمة عقيدة مشتركة. ونظراً لأن تلك الكتلة الواحدة كانت قادرة على الوصول إلى أي مكان في هجومها على الشيوعية، فإن الرؤساء الأميركيين كانوا يعتقدون أنهم بحاجة إلى مواجهتها في كل مكان. وكنتيجة لذلك، حاولت الولايات المتحدة مواجهة تلك الكتلة المتراصة حول العالم مما أدى إلى تكبيدها أكلافاً مادية وبشرية هائلة.

ولو نظرنا إلى الأمور بأثر رجعي، فسندرك أن هذا الرأي -والسياسات التي قاد إليها- كان مغلوطاً من نواحٍ عدة. فتحت راية الشيوعية الدولية، كان يتحرك خليط مشوش من الدول والأحزاب والشخصيات، التي كانت تعتنق مزيجاً من العقائد والمصالح والولاءات المتضاربة، التي تتحد في الأغلب الأعم في شيء واحد هو اعتمادها على الاتحاد السوفييتي السابق، أو جمهورية الصين الشعبية، بدرجة لم تكن تمكنها من العمل في تناغم وانسجام. في غالبية الأحيان، لم تكن هذه الكتلة قادرة على تقديم ما هو أكثر من الدعم الكلامي للقضايا السياسية للراغبين في الكلام، وليس لديهم الاستعداد للعمل.

وكانت الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن النجاح في التعامل مع الشيوعية الدولية، عندما كانت تقوم بمقاربتها ككتلة واحدة معادية، في حين حققت أبرز نجاحاتها عندما تمكنت من تطوير نوع من الحساسية الفائقة للفروقات الدقيقة التي كانت تميز مصلحة كل دولة شيوعية عن مصالح الدول الشيوعية الأخرى، ثم قامت بعد ذلك باستغلال تلك الفروقات والتعامل مع الخصائص والاحتياجات المتباينة لكل دولة على حدة.

وبعد أن تعلمت الولايات المتحدة كيف تستغل المواقف المختلفة، لمواجهة ما كان يبدو عدواً موحداً، من أجل كسب الحرب الباردة، فإنها تبدو اليوم متأهبة للبدء من النقطة الخطأ من منحنى التعلم لمواجهة تحدٍّ جديد. ففي مواجهة المتمردين في عدد من الدول، ومواجهة شبكة إرهاب عالمي حقيقية في بعضها الآخر، فإننا نجد الآن في أميركا من يريدون النظر إلى كل هؤلاء على أنهم كتلة واحدة، تشن تمرداً عالمياً لغزو الشرق الأوسط وتركيع العالم، والقضاء على الحرية. وأصحاب هذه الرؤية يدعون لشن حرب عالمية ضد التمرد، في صورة هجوم لا هوادة فيه ضد المتمردين الإسلاميين، أينما وجدوا وفي أي مكان يظهرون.

وهذه الرؤية قد تبدو منطقية من الناحية النظرية، كالرؤية التي سادت إبان الحرب الباردة، وهي أن هناك مؤامرة شيوعية سرية هدفها السيطرة على العالم... بيد أنه عند النظر فيها نجدها غير منطقية تماماً بل مغلوطة وشديدة الضرر، وذلك لأربعة أسباب:

أولها أن وضع هذه الرؤية موضع التطبيق في نطاق محاربة التمرد العالمي -كما حدث في أيام الحرب الباردة- قد يقود الولايات المتحدة إلى تقديم التزامات محدودة على أساس مبادئ عالمية غامضة ومهيمنة لدول مختلفة. وهذا -في حالة حدوثه- سيلزم أميركا بإرسال مزيد من القوات وتكبد مزيد من الخسائر العسكرية وإنفاق مزيد من الأموال بما يفوق قدرتها، ومن ثم تجد نفسها وقد انشغلت بخوض عدة صراعات في وقت واحد في مناطق يحددها المتمردون ولا تحددها هي. وفي هذا السياق أيضاً ستجعل الولايات المتحدة من نفسها هدفاً تقصدها حكومات عديدة من أجل مدها بالمساعدة، وفي حالة امتناعها عن ذلك يمكن أن تتعرض إلى اتهامات بالنفاق.

ثانيها، أن الحرب العالمية ضد التمرد بقيادة الولايات المتحدة، ستجعل من مسألة هزيمة ذلك التمرد أمراً أكثر صعوبة بالنسبة لأميركا نفسها؛ لأن واشنطن عندما تطالب الأنظمة والحكومات الحليفة لها باعتناق القيم الأميركية وإعادة قولبة بلدانها وفقاً للنموذج الأميركي -وهو أمر منتظر... فإن شعوب تلك الدول ستنظر إلى أنظمتها كمجرد دمى تحرك واشنطن خيوطها كما تشاء، وهو ما ينزع عنها الشرعية ويسبغها بدلاً من ذلك على المتمردين كرجال وطنيين يعملون في خدمة أوطانهم!

ثالثها، أن إقناع الأميركيين وإعادة تشكيل ذهنيتهم للنظر إلى التمرد العالمي على أنه كتلة واحدة، دون اهتمام بالفروق بين تمرد وآخر، يصعِّب بدوره مهمة القوات الأميركية. فمن المهم للغاية أن تعرف الولايات المتحدة أن كل تمرد يقف وراءه تاريخ مختلف وثقافة مختلفة ودين مختلف وترتيبات مختلفة لتقاسم القوة والنفوذ وقيادات مختلفة وصفات وخصائص مميزة تميز الدولة التي تشهد التمرد... وهي كلها أشياء لا يمكن لأقمار التجسس التقاطها.

رابعها، أن الاعتقاد بوجود تمرد عالمي النطاق، يقود إلى سوء إدارة الحملة الموجهة لمحاربة ذلك التمرد... إذ يقوض ذلك الاعتقاد من مصداقية قيادات الدول المرتبطة مع أميركا في تلك الحرب من ناحية، كما يقوض من ناحية أخرى مقدرة القادة الأميركيين المشتركين في محاربته. وبدلاً من السماح لهؤلاء الموجودين على أرض الواقع بالخروج بخطة مناسبة لخوض القتال ضد التمرد المحلي، فإن نظرية "التمرد العالمي" تقود إلى النظر إلى كل تمرد على أنه جزء من موزاييك معقد من التمردات التي لا يمكن فهمها إلا بواسطة المسؤولين الأميركيين الكبار المطلعين على منظومة كبيرة من المصادر الاستخبارية الأجنبية الفائقة السرية.

وكما نرى اليوم في العراق وأفغانستان، فإن أميركا عاجزة عن هزيمة المتمردين باستخدام القوة الأميركية الماحقة. ورغم أن وجود "القاعدة" ومنظماتها المتفرعة، سمة مشتركة بين هذين البلدين، فإن الأحوال الداخلية، هي ما سيحدد في خاتمة المطاف النتيجة النهائية للتمرد ضد الحكومتين المدعومتين أميركياً في بغداد وكابول. والدرس الأكبر الذي نخرج به من كل ذلك هو ضرورة المحافظة على التمييز الواضح بين "المحلي" و"العالمي" عند التعامل مع تحديات التمرد في المستقبل.