لمحنا البؤس في أميركا خلال إعصار «كاترينا»، بينما شرد هذا الإعصار الفقراء. ولكن تلك الصور التي تبعث الشعور بالصدمة كانت مضللة، فأميركا تعاني من مشكلة فقر متفاقمة، ولكنها لا تشبه نيو أورليانز، معظم الفقراء ليسوا من السود أو السمر،

وإنما غالبيتهم من البيض. ومعظمهم من الصغار والإناث والعزاب. وغالبيتهم لا يتلقون إعانات إجتماعية، وهم يعملون في كل الأيام التي يمكنهم الانطلاق فيها إلى العمل، ولكنهم على الرغم من ذلك لا يمكنهم إخراج عائلاتهم من نطاق الفقر، وفقرهم يتفاقم، ولا يتحسن.

وقد كشف تحليل لأرقام التعداد السكاني لعام 2005 أنجزه توني بوف لحساب صحف ماكليتشي أن حوالي 16 مليون أميركي يعيشون في «فقر مدقع أو قاس» مع وصول نسبة الفقراء الذين يعيشون في فقر مدقع إلى أعلى معدل خلال 32 عاماً. والأثرياء الأميركيون يزدادون ثراء، أما الفقراء الأميركيون فيزدادون فقراً.

ويعرف الفقر المدقع أو الشديد بأنه نصف خط الفقر الاتحادي، أو ما يعادل أو يقل عن دخل سنوي قوامه عشرة آلاف دولار لعائلة مؤلفة من أربعة أفراد، وحوالي خمسة آلاف دولار لفرد واحد. ويمكن للفقير بشكل شديد أو مدقع أن يواصل البقاء على قيد الحياة بطوابع الغذاء والائتمانات الضريبية وبنوك الغذاء والكساء، ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك.

ليس الفقر بالموضوع الرائج في الحياة السياسية الأميركية هذه الأيام، فكل من الديمقراطيين والجمهوريين يصرفون اهتمامهم إلى محنة الطبقة الوسطى، التي تشكل الكتلة الكبرى من الناخبين.. والجمهوريون يقدمون لهم التخفيضات الضريبية. والديمقراطيون يقدمون العون فيما يتعلق باهتمامات مائدة المطبخ والرعاية الصحية والتأمين التقاعدي وتعليم الأبناء.

وقد استخدمت تخفيضات ضريبية صغيرة للطبقة المتوسطة للتغطية على هبات هائلة للأغنياء في خطته الضريبية. والخصومات من الرهن لذوي الدخل المتوسط والأثرياء من المتبرعين تكلف الحكومة ما يزيد بكثير عن الدعم المقدم لإسكان الفقراء، ويقال إن أميركا تعاني من تعب الفقر.
وحضور «ملكة الرفاه» في ظل إدارة ريغان حل محله «المهاجر غير الشرعي» الذي يفترض أنه يقيم على الهامش متجنباً الضرائب ومستهلكاً الخدمات. وعندما جعل جون إدوارد من الفقر محوراً رئيسياً لحملته الانتخابية الرئاسية، التي استهلها في نيو أورليانز،

اعتقد معظم المحنكين السياسيين أنه يرتكب غلطة فادحة وأعربوا عن اعتقادهم بأن الأميركيين أكثر تعرضاً للضغوط من أن يصبروا على سياسي يقول إننا لا بد لنا من أن نفعل المزيد لرفع مستوى الفقراء أو لإعطاء كل طفل بداية منصفة وصحية.

والنتيجة أبعد ما تكون عن إرضاء الضمير. فأميركا تحتل المرتبة الدنيا أو قريباً منها في 31 دولة صناعية بالنسبة للفقر وفقر الطفولة بحسب دراسة لوكسمبورغ للدخل التي أوردها بوف. والأرقام ستدهش حتى من يعملون في مدن أميركا.

ويخلص البحث الذي أجراه بروفسور مارك رانك الاستاذ بجامعة وسكونسون إلى أن غالبية الأميركيين ـ 58% ـ بين العشرين من العمر والخامسة والسبعين من العمر يقضون عاماً واحداً على الأقل في فقر. وعام كامل في فقر شديد يحل بساحة واحد من كل ثلاثة أميركيين في سنوات المراهقة.

فهل يرجع هذا إلى كل أولئك العمال الذين لا يحملون وثائق قانونية الذين يتقاطرون عبر الحدود؟ لا، فهذه التقديرات لا تنطبق إلا على الأميركيين الذين ولدوا في أميركا. والاحصاءات ستكون أسوأ لو ظهر فيها العمال غيرالشرعيين.

هذه النتائج ليست بالصدفة، فنحن ننفق نسبة مئوية أصغر من مواردنا على البرامج الاتحادية لمكافحة الفقر مقارنة بالدول الصناعية الأخرى. وروسيا والمكسيك وحدهما هما اللتان تحققان نتائج أسوأ في تخفيض معدل الفقر من خلال التدخل الحكومي، والأمر يزداد تفاقماً. ولا يتحسن.

في عام 1937 حذر فرانكلين روزفلت من أن «ثلث الأمة يعاني من سوء المسكن وسوء الملبس وسوء المأكل» ودعا إلى تجديد النهج الجديد. وفي عام 2004 نظر الرئيس بوش إلى 16 مليون أميركي يعيشون في فقر بالغ ودعا إلى إنفاق المزيد من المال على المؤسسة العسكرية فيما أدخل تخفيضات كبيرة على العناية الصحية وتدفئة المنازل وبرامج تغذية الفقراء والعاجزين وهذا إفصاح عن القيم أوضح بكثير مما يمكن لأي خطاب أن يقدمه.

إن الأميركيين شعب كريم، وليس بخيلاً، ونحن ندعم الأنشطة الخيرية الخاصة، وبصفة خاصة في أعقاب الكوارث الإنسانية مثل إعصار كاترينا، ولكن هذا العصر المحافظ علم الكثيرين كراهية الحكومة والتشكك في أي برنامج لدعم الفقراء.

وبشكل ما فإن الدعم الذي تبلغ قيمته مليار دولار والمقدم لشركات النفط الكبرى التي تتمتع بأرباح قياسية لا يولد الغضب الذي تفجره البرامج المخصصة لرفع مستوى الأمهات والأطفال الفقراء وإبعادهم عن الفقر، ولا شك في أن الفوارق العنصرية تلعب دوراً هنا. وفي السويد أو فنلندا لا يتم التمييز بين الفقراء على أساس اللون أو العرق. وربما كان من الأسهل بالنسبة لفقراء هذين البلدين التفكير في ذلك هناك لولا رحمة من الله.

وفي الولايات المتحدة فإن معظم الفقراء هم من البيض، ولكن معظم الصور والتغطيات الخبرية حول الفقراء تتركز على السود والسمر في مدننا الداخلية. ومن الأسهل اعتقاد أن هؤلاء الناس هم من الغرباء غير الجديرين وغير المستحقين للدعم، وهكذا فإن أعداد الفقراء على نحو يائس تتزايد ومستوى الدعم يتناقص والهوة بين الفقراء والأغنياء تتسع. ونحن دولة أفضل من أن يحدث بها هذا، أو على الأقل هذا ما نود أن نعتقده.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)