كان لافتاً أن يتزامن خبران على الشريط الإخباري في الساعة ذاتها، ففي اليوم الذي صرّح الديمقراطيون بأنّهم يتّهمون نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني بتضليل الأمريكيين حول العراق، وفي اليوم الذي خرجت مظاهرات في واشنطن تطالب بعزل بوش وتشيني ومحاسبتهما وتُندّد بسياساتهما الخارجية، ظهر خبر آخر مطوّل في شريط الأخبار تتخلله مقابلة مع مسؤول في طالبان يؤكّد «أن الشيخ أسامة بن لادن ما زال حيّاً، وأنه هو الذي خطّط وأشرف على العملية الانتحارية التي استهدفت نائب الرئيس الأمريكي تشيني داخل قاعدة بلغرام».

هذا التزامن المريب أعاد إلى ذاكرتي تزامناً آخر حدّثني به مسؤول أمريكي سابق رفيع المستوى عقب فوز الرئيس بوش بولاية دستورية ثانية على جون كيري، حيث قال لي: «لقد لعب شريط بن لادن الذي تمّ بثه في أواخر الحملة الانتخابية دوراً هاماً في فوز الرئيس بوش على المرشح الديمقراطي» وتتالت في ذهني التزامنات المتكرّرة بين متطلبات الاستمرار في شنّ «الحرب على الإرهاب» وبين أحداث متكرّرة ومتزامنة تهدف إلى إثارة المخاوف من الإرهاب والتي شكّلت فيها التحذيرات المسبقة من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية من وقوع أعمال إرهابية في هذه العاصمة أو تلك، وكذلك الأشرطة القادمة من القاعدة «بقدرة قادر» عاملا أساسياً وهاماً. إذ من الملاحظ أنّه كلما تعالت أصوات رسمية وشعبية أمريكية تطالب إدارة بوش بالانسحاب من العراق، تبعتها أخبار عن بن لادن أو خطر القاعدة أو عملية إرهابية تضرب في أي مكان في العالم، مدريد أو الجزائر أو الدار البيضاء أو لندن. والسؤال هو هل هناك علاقة استمرار بين «الحرب على الإرهاب» وضرورة استمرار وجود الإرهابيين والعمليات الإرهابية كي يبقى العالم في حالة ذعر ويصادق دون مساءلة على كلّ متطلبات «الحرب على الإرهاب»؟

وكأنّ واقع الحال يقول لكي تستمرّ «الحرب على الإرهاب» يجب أن يستمرّ وجود الإرهاب نفسه! والسؤال هذا لا يقيم وزناً لهوية أو جنسية المنفذين للعمليات الإرهابية ولكنه يحاول الإبحار وراء الحدث والتساؤل عمّن يخطّط ويضع التصوّرات والمفاهيم وآليات التنفيذ لهذه الحرب وأدواتها والوسائل المساعدة على استمرارها. الجواب المؤكّد حسبما أفادت الدراسة الأمريكية التي أجراها كل من الباحثين بيتر بيرغن وباول كرويكشانك بعنوان «الحرب على العراق ضاعفت الإرهاب سبع مرات في العالم كلّه» هو أنّ العمليات الإرهابية تضاعفت سبع مرّات في العالم بعد بدء «الحرب على الإرهاب» (مع أنّ الدراسة نُشرت قبل أن يضرب الإرهاب في المغرب والجزائر وفيرجينيا) فالشيء الحاصل إذاً هو أنّ «الحرب على الإرهاب» تتطلب المزيد من الإرهاب.

إنّ الحاجة الماسّة اليوم هي لوضع حد فوري للحرب على الإرهاب وإعادة بناء الثقة بين الشرق والغرب، وإزالة الخوف، وإلغاء التدابير التي اتخذتها الإدارة الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من أيلول بحجّة ضرورة محاربة الإرهاب وفي مقدّمة هذه التدابير الحرب على أفغانستان والعراق والصومال، ومحاولة زعزعة استقرار لبنان والسودان، والضغوط على سورية وإيران حيث نتجت عن هذه الحروب والعقوبات والضغوط والحصار كوارث إنسانية وسياسية لا يعلم أحد أبعادها اليوم، وسوف يحاسب التاريخ مرتكبيها أشدّ الحساب في المستقبل. من هنا يأتي قرار الكونغرس الأمريكي بمجلسي الشيوخ والنوّاب بعدم الموافقة على تمويل الحرب في العراق، ومطالبة الرئيس بوش بجدولة الانسحاب من العراق خطوة هامة جداً لإعادة وضع الأمور في نصابها الصحيح. ذلك لأنّ الإدارة الأمريكية سوّقت الحرب على العراق بأنها ضرورية في استراتيجية الحرب على الإرهاب، مع أنّ الزمن أثبت أن لا علاقة للعراق بأحداث الحادي عشر من أيلول، ولا بأسلحة الدمار الشامل، ولا بالقاعدة، وحسناً يفعل الديمقراطيون حين يُخضعون المسؤولين الأمريكيين للمساءلة عن سبب هذه الادّعاءات التي لم تثبت صحّتها على الإطلاق، وكانت الذريعة الأساسية لشنّ حرب كلفت الولايات المتحدة الأمريكية المال والأبناء دون التطرّق إلى النتائج المأساوية لهذه الحرب على العراق والشعب العراقي. فإذا كان القانون الأمريكي يحاسب بشدّة الغشّ أو التلاعب بالضرائب من البديهي أن يحاسب من يمارس الغشّ أو التلاعب بقرار الحرب والسلم ذي النتائج الكارثية.

وآمل في غمرة الصحوة هذه في الولايات المتحدة التي دون شكّ تعيد المصداقية للولايات المتحدة كبلد ديمقراطي محبّ للعدالة وحقوق الإنسان، وتعيد بعضاً من الثقة في العالمين العربي والإسلامي للنظام السياسي الأمريكي بأنّه في النتيجة يخضع لرقابة وحكم الشعب. آمل أن تمتدّ هذه الصحوة من العراق إلى فلسطين لأنّ التضليل الذي مارسته الإدارة الأمريكية الحالية لا يقتصر على العراق فقط، وإنما يمتدّ إلى فلسطين ولبنان والسودان. وآمل أيضاً أن يأخذ الديمقراطيون والشعب الأمريكي معهم بما ورد في تقرير بيكر ـ هاملتون بأنّ القضايا في الشرق الأوسط «مترابطة ومتداخلة» وأنّه لا يمكن حلّ الواحدة منها بمعزل عن الأخرى. إنّ إنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق أمر في غاية الإلحاح والأهمية، ولكنّ تحقيق السلام في الشرق الأوسط لا يتمّ ولن يتمّ إلا بإيجاد العدالة للشعب الفلسطيني الذي تعرّض طوال عقود لجرائم يندى لها جبين تاريخ الدول الكبرى ومجلس الأمن، وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وقد بدا واضحاً أن ما يقوم به الديمقراطيون والشعب الأمريكي اليوم يتّجه نحو العراق فقط، ولكن أليس حرياً بمن يناهض احتلال العراق أن يقف ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟

أوَ ليس حرياً بمن يعتبر جدار الأعظمية جداراً عنصرياً ودلالة على فشل الاحتلال أن يرى الأمر ذاته في الجدار العنصري الذي بنته قوات الاحتلال الإسرائيلية وقضمت به أراضي الشعب الفلسطيني وشرّدت الأسر وفرّقت الأهل ومزّقت الأواصر الاجتماعية والتاريخية لقرى ومدن الضفة الغربية والقطاع؟ فكما أنّ الاحتلال الأمريكي للعراق هو المسؤول عن العنف والإرهاب في العراق، فإنّ الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين في فلسطين هما المسؤولان عن كلّ الاضطرابات والأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ نصف قرن ونيّف. لا بل إنّ قضية فلسطين هي لبّ القضايا بين الإسلام والغرب لأنّ العرب جميعاً، مسلمين ومسيحيين، لن يهدأ لهم بال ما لم يتمّ تطبيق الشرعية الدولية وإعادة الأراضي لأهلها وإقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني. أو يمكن أن يطمح المرء اليوم بأن يطّلع الشعب الأمريكي على الحصار العنصري المضروب على الشعب الفلسطيني، وعلى المجازر التي ترتكب بذرائع واهية ضدّ المدنيين الفلسطينيين، وعلى اعتقال وقتل الأطفال والشباب الفلسطيني اليوم لا لشيء سوى لأنهم يقاومون احتلالا بغيضاً يهجرهم عن أرض الآباء والأجداد من أجل السيطرة عليها والاستيطان بها! لكي يكتشف الديمقراطيون حقيقة ما يجري في فلسطين لا بدّ لهم من أن يطّلعوا على الحقائق في فلسطين ويكسروا الحظر الإعلامي المضروب على مأساة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. لقد كان خليل زاد محقّاً حين قال في مؤتمره الصحافي «أنّ مستقبل منطقة الشرق الأوسط هو التحدّي الدقيق في عصرنا، وأن كثيراً من مشكلات العالم الأمنية في الوقت الحالي تنبع من هذه المنطقة» هذا توصيف دقيق ولكن الجزء الذي لم يذكره هو أنّ جوهر المشكلة في الشرق الأوسط هو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، ورفض إسرائيل الكامل للشرعية الدولية، ورفض الولايات المتحدة التاريخي، وخاصّة خلال حكم هذه الإدارة، التعامل مع العرب بنزاهة، وانحياز الولايات المتحدة وعدائها لحقوق العرب، وتمويلها للاحتلال والاستيطان.

لقد قالت السيدة نانسي بيلوسي «إنّ العدل والمساواة يقودان إلى السلام» وهذا صحيح تماماً ولو تمّ إحقاق العدل والمساواة في فلسطين والجولان وجنوب لبنان لعمّ السلام في المنطقة والعالم. لقد برهن التاريخ أنّ الأمن في الشرق الأوسط أساسي للأمن العالمي ونأمل أن يقتنع العالم أن حقوق وأمن شعب فلسطين وإحقاق العدالة في الشرق الأوسط هما الطريق الوحيد لتحقيق الأمن والسلام. مهما طال أمد الاحتلال، ومهما عظمت قواه العسكرية فلن تهدأ الشعوب العربية ما لم تنل حقوقها كاملة غير منقوصة.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)