الاتحاد / ويليام فاف

لقد قصد من جدار بغداد المثير للجدل والمتنازع عليه، الفصل ما بين طائفتي السنة والشيعة، وكأنه بمثابة اعتراف آخر مجسد على الأرض، بخروج الوضع العراقي عن السيطرة الأميركية. وهو، بلا شك، إجراء أملته أفضل خيارات اليأس وآخرها. ذلك أن قرار الرئيس بوش القاضي بإرسال تعزيزات عسكرية أميركية للقوات المرابطة هناك، والذي تم الإعلان عنه في وقت مبكر من العام الحالي، تحت ستار "التعزيز الأخير قبل النصر"، لم يتحقق من ورائه شيء عدا انتقال الهجمات الطائفية وزحزحتها من منطقة إلى أخرى، مقابل فعل لا شيء تقريباً في حل الأزمة التي تعصف بالشعب العراقي كله. بل إن النتيجة المباشرة لتلك الخطة، تأجيج نيران العنف الطائفي وارتفاع معدلات القتل الجماعي اليوم، والدفع بالنخب العراقية وغيرها إلى الحدود والمنافي، وإلى مخيمات اللاجئين على الأرجح. وفيما لو استمر هذا الاتجاه الخطير، بينما انسحبنا نحن الأميركيين منه، فإنه لن يكون هناك عراق بأي معنى من المعاني، لأننا ببساطة نكون قد ذبحناه، بدلاً من أن ننقذه كما زعمنا.

على أنه في الوقت ذاته لا بديل حالياً عن خيار الانسحاب؛ أي أن يتم هذا الانسحاب بأسرع ما يمكن، وبقدر كبير من الكياسة والحكمة، وبأقصى مساعدة سياسية ممكنة من الدول الإقليمية المجاورة، مع العلم أن لديها جميعاً مصلحة أكيدة في احتواء الأزمة الراهنة. لكن كيف يكون الانسحاب، دون أن نخلف وراءنا قواعد عسكرية هناك، وفي ظل الغياب التام لأية قواعد في المنطقة المجاورة؟ وكيف لنا أن ننفض أيدينا من أية مسؤولية إزاء حماية النفط العراقي؟ هل يجوز هذا يا ترى؟! إنه ليعتريني شك كبير، إذا ما أجبت عن هذا السؤال، أصالة عن نفسي. والسبب أنه يتعارض تعارضاً حاداً وصارخاً مع الاستراتيجية الدولية ومع النزعة التدخلية التي حركت الغزو وحضت عليه، مع العلم أنها نزعة هيمنت على السياسات الخارجية الأميركية طوال العقود الأربعة الأخيرة الماضية. لكن وبدون هذا الانسحاب، فإن المنطقة ستبقى على اشتعالها والتهابها. والملاحظ هنا أن المعارضة الشرسة التي يبديها الأعضاء "الديمقراطيون" داخل الكونجرس نفسها، ليست مصحوبة باقتراح موعد للبدء الفعلي في تنفيذ الانسحاب، قبل حلول شهر أكتوبر المقبل، على أن يكتمل الانسحاب النهائي بعد مرور عام كامل من ذلك التاريخ. والذي يستشف من هذا الجدول، وكأن في استمرار وجودنا العسكري في العراق على نحو ما، ضرورة أياً كانت للتوصل إلى حل واقعي وماثل يمكن الإمساك به. وهناك من يرى أنه في حال مغادرتنا الآن للعراق، خاصة إذا ما تم انسحابنا النهائي والكامل منه، فإننا لن نخلف وراءنا شيئاً سوى الفوضى والعنف. لكن الحقيقة أن الفوضى والعنف تسودان الحياة اليومية العراقية، في ظل وجودنا الحالي فيه. وعليه فقد حان الوقت للاعتراف بأن العامل الرئيسي والحاسم في تدهور الوضع الأمني العراقي، هو الغزو العسكري الأميركي ذاته، وبالتالي فإن استمرار الوجود العسكري الأميركي هناك، يظل كذلك هو العنصر الحاسم في استمرار ذلك التدهور وتأجيجه. لذلك فلعل ما يخلفنا هناك بعد مغادرتنا، سوف يكون من صميم مسؤولية العراقيين أنفسهم. لذا فإنه ليس ثمة أفق لأي حل ممكن في العراق، قبل خروج القوات الأميركية منه.

على أنه من المؤكد أن يعقب هذا الانسحاب، تسعير وتكثيف للعنف على المديين المتوسط والقريب. غير أن ذلك لا يبرر استمرار الوجود العسكري، لأنه تتعذر معه عملياً أية إمكانية للتوصل لأي تسوية نهائية للنزاع المدني الطائفي الذي يمزق أوصال العراق اليوم، ويهدد كافة مؤسساته ومستقبله. والحقيقة أن الجنود الأميركيين المرابطين حالياً هناك، لا يفعلون شيئاً مهمَا حاربوا وقاتلوا، سوى الوقوف النهائي في طوابير الفرجة على مسرحية الدم العراقي المراق أمام ناظريهم يومياً.

وبين هذا وذاك لا يزال "الديمقراطيون" وخصومهم "الجمهوريون" في الكونجرس، يتشبثون بقناعتهم القائلة بحسن نوايا التدخل الأميركي في الشأن العراقي، ومن ثم القول بأنه لا يزال في وسع وجودنا العسكري هناك أن يكون قوة إيجابية دافعة لإحراز تقدم في الوضع الأمني، وتوجيه العراق في وجهة التحول الديمقراطي التي أردناها له.

على أنه يجب القول أيضاً إن الكونجرس لا يزال يقف شاهداً صامتاً على مسرحية عراقية أخرى، رفع الستار عنها للتو في الصومال. فمن من القادة "الجمهوريين" أو "الديمقراطيين" في الكونجرس، يتحدث اليوم عن مسؤولية الولايات المتحدة عن إشعال نار الحرب الأهلية هناك، سواء عن طريق التدخل المباشر أو غير المباشر في شؤون ذلك البلد الجريح الذي بدأ يشهد نوعاً ما من الاستقرار النسبي المؤقت، بعد حرب أهلية طويلة الأمد، في ظل "اتحاد المحاكم الإسلامية"، والذي حظي بقبول مقدّر من قبل المواطنين وزعماء العشائر والقبائل الصومالية؟! الثابت في نظر واشنطن أنه تجب مهاجمة جميع الحركات الإسلامية، وقتل قادتها أو القبض عليهم والزج بهم في سجوننا السرية. وفي ذلك الجزء من القارة الأفريقية، برزت إثيوبيا كدولة حليفة أخرى في حربها على الإرهاب، وفي مشروعها الهادف لنشر الديمقراطية وتوسيع نطاقها على الصعيد العالمي كله. ولذلك فقد وفرت لها الولايات المتحدة ما تحتاجه من دعم عسكري في غزوها للصومال، بغية إحلال نظام المحاكم الإسلامية القائم حينئذ، بحكومة منفى مؤلفة من معارضي ذلك النظام، وربما تكون لهم أجندة وطنية ديمقراطية أفضل حالاً من البرنامج القهري الذي يطبقه نظام المحاكم، إلا أن حكومة المنفى تلك، ظلت عاجزة عن فرض نفسها في التراب الصومالي، على رغم ما حظيت به من اعتراف دولي. ونتيجة للحرب الأهلية التي اندلعت هناك، فقد تم تشريد ما يزيد على نصف مليون نسمة من العاصمة مقديشو، بينما تصاعدت حمى القتال ضد القوات الإثيوبية الغازية، واستعرت مجدداً نيران الحرب العشائرية والطائفية، داخل الصومال وفي إثيوبيا المجاورة نفسها. وهكذا يفتح التدخل الأميركي، جبهة حرب أهلية جديدة، في إحدى أكثر دول العالم ومناطقه اضطراباً.