الرأي العام / علي الرز

اسهل ما في المقالات عن أميركا انك يمكن تعبئتها بعبارات معلبة جاهزة حاضرة منذ نعومة اظفارنا، أو الغرف ببساطة من المخزون الكبير عن «الشيطان الاكبر» ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهو المخزون المحيط بكل تفاصيل حياتنا اليومية منذ لحظة الاستيقاظ وحتى... الاحلام والكوابيس.
السبب في ذلك مركب بطبيعة الاحوال بين خطأ اميركا عندما ابتعدت عنا وخطيئتها عندما اقتربت وصارت تشبهنا، اذ ابقت افضل ما عندها عندها وحملت الينا اسوأ ما عندها وعندنا. فاذا كانت هي الشيطان الاكبر فقد اصبحنا نحن رموز الشر، واذا كان بعضنا قسم العالم الى فسطاطين للكفر والايمان فقد قسمت هي العالم الى محور ومحور، واذا كان بعضنا من غله وعجزه وخوفه تظاهر في الساحات العربية وشتم اميركا وهو يقصد انظمته فقد لجأ مسؤولون اميركيون من غلهم وعجزهم وخوفهم الى شتم الاعلام العربي ردا على فضائح سجن ابو غريب التي فجرها الاعلام الاميركي... وقس على ذلك.
كله معروف، كله مفهوم، كله مطروق. فاميركا انحازت الى اسرائيل ولم تقم توازنا في سياساتها الخارجية مغلبة المصالح على المبادئ. اميركا شجعت الاعمال العنصرية والتمادي في جرائم القتل من خلال معايير مزدوجة في الادانة بين فريق وفريق. اميركا دخلت حربا على الارهاب بذهنية الانتقام لا بذهنية التغيير الحضاري. اميركا تضحك على نفسها قبل ان تضحك علينا من خلال مسطرة تصنيفاتها للديموقراطية...الموروث كبير والمخزون اكبر و«كلام الناس لا بيقدم ولا يأخر».
ولكن لنتمتع بإلقاء نظرة على الضفة الاخرى، ضفتنا، حيث النقاء والصفاء والبراءة والطهارة، ولنسأل: لو لم يكتشف كريستوف كولومبوس اميركا على من كنا سنلقي اسباب مصائبنا واخطائنا وخطايانا؟
السؤال في حد ذاته مصيبة لان «جسم اميركا لبيس» من جهة ولان امتنا العظيمة لا يمكنها ان تسمح لنقد ذاتي داخلي موضوعي ان يخدش نقاءها من جهة اخرى. فلو لم يكتشف كولومبوس اميركا من سيتحمل مسؤولية التخلف العربي عموما وتفاصيله بشكل خاص؟
هنا محاولة متواضعة للاجابة.
لو لم يكتشفها كولومبوس لاختفى الخلاف الاساسي بين السنة والشيعة وبين المذاهب الاسلامية وبين المسلمين واتباع الاديان الاخرى، ولذابت مع الايام الفروقات الدينية والمذهبية لمصلحة دول ومجتمعات حديثة عصرية قوامها التنمية والعلم والتقدم.
ولو لم يكتشفها كولومبوس، لسادت حقوق الانسان في العالم العربي وصارت ديموقراطيته مضرب مثل في كل مكان، ولاختفت مناهج وافكار وسياسات التعبئة ضد الآخر مهما كان شكله او دينه، ولقاد العرب سياسة التنوير الحضارية في كل العالم استنادا الى ان الديانات الاساسية نبتت في ارضهم ومجتمعهم من جهة ولانهم الاقدر على حمل هذه الرسالة نتيجة تفوقهم العلمي والتكنولوجي من جهة اخرى.
ولو لم يكتشفها كولومبوس لكانت الحريات عند العرب في ابهى صورة. الغالبيات تحترم الاقليات وتذوب معها في مشروع الدولة، والمرأة ليست نصف المجتمع فحسب بل ثلاثة ارباعه، محترمة مقدرة فاعلة ناشطة وشريك اساسي في كل شيء. والرجل لم يعد «سي السيد» الآمر الناهي الذي يختصر في شخصه دورة الحياة.
كان يستحيل ان تحصل انقلابات في السلطة وعليها، ويستحيل ان تجد عسكريا مسكونا بتصفيق الجماهير وجرح حناجرهم يذيع البيان الرقم واحد ثم يصبح هو الرقم الاول والاخير فيفصل القانون على حرارة خطاباته ويطوع القضاء والامن واجهزة الحكم كلها لتبرير عمليات القتل والابادة والمجازر الجماعية. ويستحيل بالطبع ان تجد حاكما عربيا ديكتاتوريا يكمم الافواه ويحول البلاد الى «عزبة» له ولافراد عائلته والمقربين.
وكان يستحيل ان نضيع الارض، واذا فعلنا فيستحيل ألاّ نستردها بسرعة، فلا خلافات بيننا ولا معارك جانبية ولا انقسامات دموية.
ولو لم يكتشفها ذاك البحار السكير، لما عرف العرب والمسلمون الارهاب، فلا مدارسنا التكفيرية تحض عليه ولا التعبئة الظلامية تشحن النفوس، وليس من عاداتنا وتراثنا واخلاقنا استهداف المدنيين الابرياء او الاغتيال السياسي.
نحن الانقياء الاتقياء، رموز الطهارة والبراءة والصفاء، اساتذة التحضر الانساني... فعلها بنا كولومبوس وما فعلنا بانفسنا شيئا. ومع ذلك نشكره على تبيان الحقيقة لان الخطأ من الآخرين دائما وليس منا.