الرأي العام / صبحي غندور

عوامل كثيرة تدفع بعض الناس الى الانحباس في خنادق فكرية فيعتقدون انهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل «الفكر الآخر»، بينما هم في الواقع يسجنون ما لديهم من فكر ورؤى، فلا «الآخر» يصل اليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطورون أو يكسبون فكراً جديداً، بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجرين.
ومن دون شك، يرى صاحب كل فكر الصواب في فكره والخطأ في فكر غيره، لكن قليلاً من المفكرين من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر. وهذا منطلق مهم لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، ومع انعدام هذا المنطلق المشترك الذي يحتمل الصواب والخطأ في كل رأي، سيسير أي حوار في طريق مسدود.
وقد لمست أهمية هذا المنطلق في سلسلة لقاءات فكرية شهرية دعت اليها مجلة «الحوار» في واشنطن بمطلع التسعينات، ثم في ندوات «مركز الحوار العربي» التي تجاوز عددها الآن 650 ندوة على مدار أكثر من 12 عاماً. فقد كانت ارضية هذه اللقاءات والندوات (ولا تزال) هي القناعة بوجود تعددية فكرية وسط أي جماعة بشرية، حتى لو كانت هذه الجماعة عائلة واحدة، فكيف إذا كانت شعباً أو أمة؟
وما زلت اذكر حواراً دار في العام 1993، بأحد اللقاءات الفكرية التي سبقت تأسيس تجربة «مركز الحوار» بواشنطن، بين مفكر وأكاديمي عربي معروف باتجاهه الفكري القومي، وبين اعلامي عربي من شمال افريقيا خاطب الأول قائلاً: أنا عربي من اصل بربري، عرفت العروبة من خلال الاسلام، وأجد نفسي منسجماً فقط مع الانتماء للفكر الاسلامي»، فرد عليه المفكر الاكاديمي: «أنا مسيحي لبناني عرفت الاسلام وأحببته من خلال العروبة ومحبتي لها». وكان هذا الحوار بحد ذاته كافياً لإدراك العلاقة الخاصة بين العروبة والإسلام في البلاد العربية ولدى كل العرب بغض النظر عن أصولهم الوطنية أو انتماءاتهم الدينية.
فمشكلة بعض الحركات السياسية الإسلامية أو القومية انها لم تحسن إدراك هذا المفهوم الصحيح للانتماءات الدينية والقومية، وقام هذا البعض بخلط المفهوم الفكري والثقافي مع المضامين والمواقف السياسية، فأصبحت أخطار الممارسة مقرونة بمفهوم الانتماء نفسه. من أجل ذلك خرجت مدارس فكرية وسياسية تدين هذا الاتجاه الديني أو ذاك القومي بحال من التعميم لكل ما هو «إسلامي» أو «قومي»، بينما لا تجد الحالة الفكرية السليمة تناقضاً ما بين الهوية الثقافية القومية وبين المضمون الحضاري الإسلامي لها.
أيضاً، في تجربة «الحوار» بواشنطن، تساءلت كما هو حال غيري من العرب والمسلمين المقيمين في أميركا أو الزائرين لها، عن مشكلة مصطلح «العلمانية» الذي يخضع للكثير من الذم والمدح من دون اتفاق أولاً على مفهوم المصطلح نفسه، وعلى التمييز المطلوب بين التجارب العلمانية في العالم. فالمسلمون في أميركا - كما غيرهم من أتباع الديانات الأخرى - يمارسون كامل حقوقهم الدينية في ظل مجتمع قائم على النظام السياسي العلماني. لكن علمانية الدستور الأميركي اختلفت مثلاً عن علمانية التجربة الفرنسية من ناحية النشأة، كما من ناحية التطبيق أيضاً. ففرنسا اختارت العلمانية تاريخياً من أجل وضع حد لتدخل الكنيسة في شؤون الدولة، بينما الآباء الدستوريون في أميركا، وفي مقدمتهم توماس جيفرسون، اختاروا النظام العلماني لضمان حرية تعدد الطوائف الدينية ولعدم طغيان طائفة على أخرى. فأميركا لم تشهد تاريخياً الصراع الذي جرى في أوروبا بين رجال الكنيسة وبين رجال وأمراء الدول، ولذلك اختلف المفهوم واختلف التطبيق رغم وحدة التسميات. وهذا ينطبق ايضاً على الفارق بين التجارب العلمانية الشيوعية وغيرها من الأنظمة العلمانية الديموقراطية، حيث سعت العلمانية الشيوعية لفصل الدين عن المجتمع كله، لا لفصل الدين عن الدولة فقط كمفهوم عام لمصطلح العلمانية.
ان «العلمانية الأميركية» لا تفصل الدين عن الدولة كلياً كما هو الحال مثلاً في فرنسا وتجارب أوروبية أخرى، ولا يجد الرئيس الأميركي (أي رئيس وليس فقط الرئيس الحالي) حرجاً في الذهاب اسبوعياً للكنيسة من أجل الصلاة، بينما لا يتصور قبول ذلك في تجارب علمانية أوروبية. فالعلمانية الأميركية تشجع على الإيمان الديني ولا تحاربه، وتقوم المؤسسات الحكومية بدعم المراكز والمؤسسات الدينية (وبعضها اسلامي) وتتم الصلاة في مؤسسات حكومية وتشريعية بشكل مشابه تماماً لما يحصل في كثير من البلدان العربية والإسلامية. وحقوق الإنسان في ممارسة شعائرهم الدينية (بما في ذلك مسائل الشكل واللباس) هي مصونة بحكم القانون. وهذا أمر لا توفره مثلاً التجربة العلمانية الفرنسية أو التركية.
إذاً، رفض العلمانية بالمطلق، أو الدفاع عنها بالمطلق، هو إجحاف بحق المفهوم والتجارب التنفيذية له. فالعلمانية، في التجربة الأميركية، هي لضمان حقوق كل الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما يتم استخدام العلمانية في تجارب عالمية أخرى للحد من دور الدين في المجتمع. فالتوافق على فهم مشترك لمعنى أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي حوار فكري متميز. هذا الأمر ينطبق حتى على ما يندرج تحت خصوصيات قائمة داخل الأمة الواحدة. فالحل لا يكون برفض المصطلح لمجرد اختزان مفاهيم عن تجارب محددة سلبية تحمل تسمية المصطلح نفسه، إذ المشكلة هنا ان المصطلحات كلها تعرضت الى تجارب تطبيقية سلبية ومسيئة: في الفكر الإسلامي والفكر القومي والفكر العلماني، كما على صعيد شعارات الحرية والديموقراطية والوطنية.
ومن غرابة الأمور، ان التشويه حدث ولا يزال يحدث في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغيير إيجابي بكثير من ارجاء الأمة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل ابعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون اليها أو التسليم بها. فمصطلح «الشرق الأوسط» أصبح اكثر تداولاً الآن من تعبير «الأمة العربية». ومصطلح «المصالح الطائفية والمذهبية» أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن «المصلحة الوطنية». والاحتلال تحول الى «تحرير»! و«الخصخصة» أصبحت شعاراً بديلاً لواجبات الدولة في ضمان «العدل الاجتماعي»، و«الديموقراطية» جرى اختصارها في حق «الصراخ» على الفضائيات فقط! و«مقاومة» الاحتلال أصبحت «إرهاباً» أو «ميليشيا»!
انه لواقع حال لا يعبر فقط عن أزمة مصطلحات ومفاهيم، إذ لو كان الأمر كذلك لأضحى الحل في طباعة قاموس جديد! حقيقة المشكلة هي ان وراء كل مصطلح مشوه تجارب سيئة مشوهة، بعضها في الحكم والبعض الآخر في المعارضة! ومن هنا يمكن البدء في تصحيح المفاهيم والاتفاق على المصطلحات.