"الثورة" التركية الثانية مستمرة. الثورة الهادئة البادئة مع وصول "حزب العدالة والتنمية" في انتخابات 2002 الى الحكم. والمنتقلة الى محطة جديدة في مسارها مع محاولة ايصال مرشح الحزب عبدالله غول، ذي الزوجة المحجبة، الى رئاسة الجمهورية، والمتواصلة مع الصراع السلمي الديموقراطي بين نخب المجتمع التركي المُعبّر عنها حتى الآن بالتظاهرتين الكبيرتين جدا للتيارات المعارضة "لحزب العدالة والتنمية" (AKP) في كل من انقره واسطنبول.
الفعل ورد الفعل، بل الأفعال وردود الفعال السابقة والحالية واللاحقة هي جزء من مسار هذه الثورة الهادئة التي تظهر تركيا الحديثة فيها انها دخلت الى غير رجعة في مسار إعادة صياغة ديموقراطية لمضمون علمانيتها السياسية والاجتماعية والثقافية على مستويات مختلفة.

في هذا المخاض المتجدد علنا (والمتفاعل دائما) يجب الإصغاء الى منطق المعارضين لترشيح عبدالله غول لرئاسة الجمهورية. وهو منطق يستحق الإصغاء، أبرز من عبّر عنه كان دنيز بايكال زعيم "حزب الشعب الجمهوري" (CHP)، الحزب الوحيد في انتخابات 2002 الذي تمكن مع "حزب العدالة والتنمية" من الدخول الى البرلمان عبر تخطي حاجز العشرة بالماية الذي سقطت دونه يومها الاحزاب الكبيرة الأخرى. وتمكن (CHP) بالتالي من ان يكون حزب المعارضة البرلماني الوحيد لفترة، حتى بدأت الانشقاقات عنه وعن AKP من نواب التحقوا باحزاب غير موجودة في البرلمان وعادت للتواجد بفضل هذه الانشقاقات محققة حضورا برلمانيا ما بعد الانتخابات وليس عبرها.

يقول إذن زعيم "حزب الشعب الجمهوري" ان "حزب العدالة والتنمية" الذي حصل في انتخابات عام 2002 على 34 بالماية من الاصوات مكنته من السيطرة على اكثر من ستين بالماية من المقاعد النيابية بحكم طبيعة نظام الاحتساب الانتخابي التركي... لا يستطيع ان يسيطر على رئاسة الجمهورية كموقع - رمز لكل تركيا. اي ان 34 بالماية من الناخبين الاتراك لا يجوز ان تفرض رئيساً للجمهورية يفترض ان يمثل نسبة فعلية من الاغلبية الشعبية. خصوصا انه في هذه الحالة ستكون 34 بالماية من الاصوات سيطرت على المواقع الرئيسية الثلاثة الاعلى للدولة: رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان.
هذا منطق يستحق الإصغاء حتى لو كان "الجيش" داعماً له. "فليس كل ما تفعله المؤسسة العسكرية غير ديموقراطي، سيما في بلد أظهر فيه الجيش انه يعود الى ثكناته بسرعة عندما كان يقوم بانقلابات عسكرية ويسلم الحكم الى مدنيين. وما هو أهم من ذلك انه أظهر تكيفا مع تطور التجربة التركية التحديثية جعلته يقبل، بل يرعى، استقرار تجربة جيل جديد من "الاسلاميين" الاتراك بقيادة رجب طيب اردوغان.

إذن السؤال الاول: هل ذهب رجب طيب اردوغان بعيدا، فتخطى "التفويض" الذي حصل عليه عام 2002 عبر نسبة الـ34 بالماية، وكان يستطيع ان يبقى مع حزبه في السيطرة على الحكومة دون منازع بل وسط تصفيق العديد من النخب التركية بسبب عدد ملموس من النجاحات الاقتصادية والسياسية التي حققتها حكومته؟ هل كان عليه ان يختار لرئاسة الجمهورية التي تتكثف فيها كل رموز الدولة العلمانية التقليدية رغم محدودية (ولكن اهمية) صلاحياتها... ان يختار شخصية من خارج حزبه ترضى عنها الفئات الاجتماعية الواسعة في المدن الكبرى الرافضة لأي "انحراف" اصولي على رأس الدولة وهي فئات سنية وعلوية واسعة جدا كما اظهرت تظاهرتا انقره (300 الف) واسطنبول (اكثر من مليون) في بلد بات عدد سكانه يتجاوز السبعين مليونا، منهم حوالى 45 الى خمسين مليونا من السنة و15 الى 20 مليونا من العلويين مع بضعة مئات آلاف من اليهود والمسيحيين، ارمناً ويوناناً وعرباً، وبين 10 الى 15 مليونا من الاكراد (ايضا اغلبية سنية واقلية علوية).
لكن تركيا مجتمع طبقات فعلية اكثر مما هو مجتمع طائفتين... ومع اتساع المدن ونمو التجربة التحديثية اتسعت الطبقة الوسطى اتساعا هائلا وهي حملت في احشائها تحولات يرى عدد من الباحثين السوسيولوجيين والسياسيين الاتراك انها نقلت قيادة "المشروع الاوروبي" لتركيا الى فئات جديدة في المدن ذات اصول ريفية اناضولية وليس بلقانية (او رومللية) كما كانت التركيبة الغالبة للنخبة الكمالية التي ورثت الامبراطورية العثمانية واسست الجمهورية. هذه الفئات الجديدة هي "الوعاء" الانتخابي - السياسي "لحزب العدالة والتنمية". لكن مقابلها، بما فيها قوى بورجوازية قديمة وجديدة، هناك فئات ايضا واسعة تعتبر انه لم يحن الوقت بعد للإطمئنان الى طبيعة المشروع الضمني للجيل الجديد من الاسلاميين بقيادة رجب طيب اردوغان، بل ان البعض من نخب هذه الفئات يعتبر ان قيادة (AKP) تحمل مشروعا "سرياً" للدولة. اعتقد ان هذه مبالغة كبيرة فلا مشروع سري بل محاولة تغيير في النمط العلماني وليس الغاء العلمانية. لكن العنصر الاهم الذي ينتج عن هذه الصورة، انه بسبب قوة واتساع الفئتين المتصارعتين على صورة العلمانية التركية فإن النظام البرلماني التركي متجه ليصبح نظام حزبين رئيسيين، كما حصل في انتخابات 2002 او نظام تكتلين اساسيين ليسار الوسط في كل منهما مجموعة احزاب بقيادة "حزب الشعب الجمهوري" وليمين الوسط بقيادة "حزب العدالة والتنمية". غير ان طبيعة التعديلات على النظام الانتخابي ستلعب دورا اساسيا في تقرير صورة تعددية البرلمان المقبل، لاسيما مع إلغاء "حاجز" العشرة بالماية كحد ادنى للدخول الى البرلمان.

على اي حال، بات من المؤكد ان تركيا تتجه الى انتخابات نيابية مبكرة بعد قرار المحكمة الدستورية بعدم قانونية الجولة الاولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الاثنين المنصرم، متبنية، اي المحكمة، نصاب اكثرية الثلثين الذي لم يتأمن حتى الآن.

لكن ايا تكن طبيعة المناورات الآن في اللعبة السياسية، فان "حزب العدالة والتنمية"، ولاسيما زعيمه رجب طيب اردوغان، يتحمل مسؤولية تاريخية ايضا في عدم دفع الامور الى حدود خطرة على مسار الديموقراطية التركية. فقادة "حزب العدالة والتنمية" الذين يقودون الثورة الهادئة منذ العام 2002 يعرفون حجم المعارضة الشعبية الواسعة جدا لمواقفهم في انتخابات رئاسة الجمهورية، اذ في مدينة ازمير، المدينة الكبرى الثالثة في تركيا والمرفأ الكوزموبوليتي التاريخي على شاطئ بحر ايجه شهد موجة عارمة من وضع الاعلام التركية فوق شرف الوف المنازل في المدينة في ظاهرة احتجاج ايضا على ترشيح عبدالله غول (ليس رفضا لشخص غول وانما لوصوله الى رئاسة الجمهورية بما يعنيه هذا الوصول). فاقتراح انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة يشكل لا شك نوعا من الاستفزاز غير المبرر الآن، لانه عمليا يعني تغييرا في النظام السياسي برمته. وقد يأتي وقت يمكن ان ينضج فيه اقتراح كهذا.

اذن باختصار مسؤولية "حزب العدالة والتنمية" الآن معادلة لمسؤولية المؤسسة العسكرية في منع قيام انقلاب... والإبقاء على الطابع الهادئ للتحولات العميقة الجارية. لا الانقلاب "المدني" عن طريق AKP الذي يجب ان لا ننسى ولا ينسى ان "النظام" استوعبه في رئاسة الحكومة دون مشكلة في ذلك... ولا الانقلاب العسكري طبعا.

•••

عدد من الاصوات في الصحافة العربية بدأ يعلو مستعيدا عادة سيئة جدا، هي النظر الى تركيا بالافكار المسبقة الرائجة عن سيطرة الجيش (بالمعنى العربي للكلمة!) والعلمانية المعادية للعالم المسلم (بالمعنى السطحي ايضا).

بمجرد ان أطلت الأزمة السياسية الجديدة في تركيا، بتنا نقرأ مقالات لمثقفين ومعلقين تستعيد كل هذا الإرث التبسيطي إن لم يكن العدائي للتجربة التركية، كأنما هذه الاصوات، وأتوقع المزيد منها، كانت تنتظر "حركة" ما للجيش التركي حتى تسقط عليها كل المعايير العسكرية - السياسية للتجارب العربية البائسة. لم يصدق الكثير من النخب العربية ان شيئا مهما وعميقا في التطور الديموقراطي التحديثي يحصل في تركيا حتى وصل "حزب العدالة والتنمية" الى السلطة واستقر فيها، ولم تصدق هذه النخب ان تركيا الدولة - الأمة تحمل طاقة من الاستقلالية - حتى في عالم حاد الاستقطاب - حتى رفضت الدولة التركية، جيشاً وحكومة، مرور الجيش الاميركي من تركيا الى العراق خلال غزو آذار - ونيسان 2003.

كانت صورة ما بدأت تتغير، وكان "نموذج" تركي يولد لدى النخب العربية. برأيي هذا "النموذج" هو الآن اقوى من أي وقت سابق. ووجود "حزب العدالة والتنمية" الآتي من اصول اسلامية على رأس حكومة تركية هو شاهد رئيسي على تبلور "النموذج". لكن "النموذج التركي" ليس مرتبطا فقط بوجود "اسلاميين" مسيطرين على الحكومة، إنه تجربة التداول الديموقراطي للحكم. النجاح الاقتصادي في تحول تركيا الى "نمر" جديد (اين منه ايران او اي بلد عربي نفطي آخر). وبل هو تجربة "عقلانية" دور الجيش.

"الثورة" مستمرة في تركيا، والمثير ان "الاسلاميين" (وهم لا يحبون هذه التسمية الآن وعلى رأس رافضيها رجب طيب اردوغان) هم في الواقع في الهجوم... ومعارضتهم تقف في الدفاع وليس العكس.

الانتخابات النيابية المقبلة ستوضح نسبة الاستقطاب وستكشف الذروة الجديدة للتجربة التركية.

الثورة التركية الهادئة مستمرة. ولربما يختبر الاوروبيون الآن واحدة من "امتحانات" تأثير تعثر انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي على مصير الديموقراطية التركية، بل ربما على مصير تكريس "اسلام سياسي" محاور لا معاد للغرب.

•••

يهلل بعض العرب لأي تطور سلبي، او يرونه سلبيا في تركيا، كأنما يشكل ذلك تحررا بسيكولوجيا من عبء ثقافتهم السياسية التي تدربت على تبرير الاستبداد.

مصادر
النهار (لبنان)