لو عادت حكومة أولمرت من حرب لبنان بانتصار على المقاومة أو على الاقل صورة انتصار فوتوغرافية لقيادي أساسي في حزب الله مكبل الى مروحية، لما قامت لجنة فينوغراد حتى لو ارتكبت الحكومة الأخطاء نفسها التي يعددها تقريرها الحالي. وأولمرت الخبير بالمزاج الإعلامي وبالنفسية السياسية “الإسرائيلية” أكثر من خبرته في إدارة الحكومة والحرب يعرف هذا، ولذلك قام في نهاية العمليات القتالية بمحاولات مستميتة للإنزال، تتضمن عمليات كوماندوز وغيرها لقنص انتصار، مهما كان وهميا وصغيرا، ولكنه فشل. فشل في الحرب، وفشل حتى في التقاط صورة انتصار وهمية.

ولذلك نقول الفشل هو أبو لجان التحقيق وليس الخطأ، ولا البحث عن مكمنه كما تدعي وتتصرف اللجان ذاتها بوقارها المعروف. فلو وقع انتصار مفارق ناجم عن انحلال قوى الخصم أو حصول خيانة أو غيرهما، أو لو فشلت المقاومة وأدى فشلها الى نجاح “إسرائيلي” بغض النظر عن حجم الأخطاء “الإسرائيلية” التي ارتكبت لما قامت لجنة تحقيق. ليس الأخطاء التي يتم البحث عنها الآن بأثر رجعي، بل نجاح المقاومة في الصمود وإدارة المعركة أدى الى إقامة لجنة تحقيق.

وتعج الصحافة “الإسرائيلية” بصحافيين وكتبة مقالات وشخصيات عامة تطالب أولمرت بالاستقالة. إن هؤلاء الإعلاميين “الإسرائيليين” أنفسهم الذين تترجمهم بعض الصحافة العربية من دون تدقيق وتروج مقولاتهم من دون مراجعة لتاريخ هذه المقولات، ومن دون ذاكرة نقدية، كانوا قد حثوا وحرضوا أولمرت على شن الحرب بعد عملية خطف جنديين يصح ان نسميها حادث حدودي. لقد نفخت العملية التي نجمت عن رفض “إسرائيل” تحرير الأسرى اللبنانيين في صفقات تحرير سابقة. وتحولت عملية خطف جنديين إلى سبب للحرب التي قدم موعدها من دون جهوزية “إسرائيلية” ومن دون دراسة السيناريوهات المحتملة والتوقف عندها بلغة فينوغراد. فكيف تم ذلك؟ بتعريض حكومة ضعيفة ومضطرة أن تظهر كحكومة قوية للضغط بالتهويل والتطبيل والتزمير من قبل السياسيين والإعلاميين أنفسهم الذين يطالبون الآن باستخلاص النتائج، وبعدم التواني في ربط الحرب بأهداف استراتيجية أمريكية في المنطقة وفي لبنان. أولئك لن يغفروا لأولمرت ورئيس أركانه أنه لم يجلب لهم النصر الذي وعدوا قراءهم به، ولن يغفروا لقيادة الجيش هذه الفضيحة في إداء الجيش الذي بنوا عليه كل تنافخهم الوطني. الذين يتهكمون الآن أنفسهم على خطابه الحربي أمام البرلمان، والذي يحرجه هو أيضا حاليا، كانوا قد وصفوه في عناوين رئيسية بعبارة “خطاب قائد”.

ليست لجنة فينوغراد ونتائجها وترويج الإعلام لهذه النتائج دليل ديمقراطية من أي نوع، ولا حتى دليل توفر عنصر المساءلة من عناصر الديمقراطية، بل هي دليل على أن مجتمع الإنجازات والوصولية السياسية وغير السياسية مجتمع منتهزي الفرص من الأنماط البشرية الرديئة التي تعاقبت على عدم الوصول لا على كيفية الوصول، لا يحاسب ولا يسائل على الخطأ بل على الفشل. وطبيعي أن الأنظمة غير الديمقراطية غالبا ما تحاسب على الفشل أيضا، وذلك لانه ابو التحرك الجماهيري والانقلاب العسكري ومحاولة الإصلاح وحتى الاستقالة.

المحاسبة على الفشل لا تميز الأنظمة الديمقراطية إذا، فقد بدأ التحول في البرتغال مثلا بانقلاب عسكري بعد هزيمة عسكرية مني بها استعماره في افريقيا ومست تلك الهزيمة شرعية النظام القائم. وفي اليونان اضطرت الطغمة العسكرية إلى إجراء الانتخابات بعد هزيمة أمام تركيا، وفي الأرجنتين بعد هزيمتها أمام بريطانيا في حرب الفوكلاند بعد محاولة الاعتماد على الشرعية في تأجيج المشاعر القومية وإعادة احتلال الجزر وضمها للأرجنتين. الفشل في حد ذاته عملية محاسبة، وأي خصم سياسي يريد الاستمرار بالحياة يكمله ويحوله الى محاسبة واعية واستخلاص نتائج.

وهنا فشلت حكومة أولمرت في وضع الأهداف، وفشلت في إدارة الحرب وفشلت في اقتناص انتصار، وعلى هذا الفشل تحاسب حاليا من قبل من دفعوها أنفسهم الى الحرب. فنحن لم نسمع عن صحافي يحاسب نفسه بالانقطاع عن الكتابة لأنه حرض على الحرب أو طالب بتسوية بنت جبيل بالأرض، أو اقترح خططا عسكرية للانتصار وهو جالس في بيته. ولكن هذا النمط نفسه من الصحافيين يضع الآن سيناريوهات التطور بعد أولمرت، ويرغب بجدية في أن نقتبسها وأن يشغلنا بها.

الداعي إلى التحقيق هو أولا الفشل، أو للدقة، تفويت المقاومة على “إسرائيل” فرصة تحقيق ولو حتى انتصار وهمي.

وثانيا، الغرور والعنصرية، وكيف نقول الغرور في حين ان التحقيق يوحي بالشفافية والتواضع، ثم ما علاقته العنصرية؟ لسبب ما اقتنع المجتمع “الإسرائيلي” بأن نموذج الحروب هو حرب ،67 وأن حربا لا تحقق نصرا بست ساعات تستدعي لجنة تحقيق ووابلا من الخيبات والمرارات. ولسبب ما اقتنعت “اسرائيل” بأن العرب يحاربون دائما كما في عام ،67 مع أن تلك الحرب حصلت مرة ولم تتكرر، ولا حتى في معركة الكرامة التي تلتها بأشهر ناهيك عن حرب اكتوبر/تشرين الأول 73 ثم الصمود في حصار بيروت عام 2891 ثم المقاومة اللبنانية والانتفاضة. حرب 67 وقعت مرة واحدة ولكنها لاتزال تشل الوعي العربي حال التهديد بعدوان “إسرائيلي”، فتشكك بإمكانية الصمود وتحقيق انجازات. أما من ناحية “إسرائيل” فقد باتت تؤثر سلبيا إذ يعتقد “الإسرائيليون” أنه من صفاتهم الجوهرية ومن مزايا الفجوة الحضارية مع العرب ما يمكنهم من تحقيق انتصارات سهلة لا يسقط فيها جنود، فالعرب غير قادرين على تدفيع المعتدي أي ثمن يذكر. وإذا تمعنا بانصعاق “الاسرائيليين” من عدد يزيد على مائة جندي “إسرائيلي” بقليل سقطوا في الحرب مقابل هذا الدمار الذي لحق بلبنان ومقتل آلاف المدنيين اللبنانيين بينهم عدد مريع ومرعب من الأطفال، ندرك عنصرية الافتراضات التي تحرك لجنة التحقيق.

فلم يخطر ببال اللجنة أن تحاسب على جريمة قتل بلا رحمة للأطفال بالقصف الجوي، وتدمير منهجي بربري لثلث لبنان. اللجنة التي تضم مهنيين حقوقيين ومؤرخين من توجهات “إسرائيلية” قديمة السلوك والنهج وزاوية النظر، تذكر بنخب “حزب مباي” القديمة، حاسبت على قلة الخبرة وعدم الدراية وعدم التروي والغرور والتفرد في صنع القرار وعلى تحديد الأهداف وعلى التسرع في عملية صنع القرار. أما الثمن الذي دفعه اللبنانيون جراء ذلك، فهو ليس خارج حدود عقل وخطاب لجنة التحقيق فحسب، بل لو قتل أطفال أكثر ودمرت قرى أكثر في حرب وضعت لها الأهداف بشكل مدروس، وتحقق قسم منها لما قامت أصلا لجنة تحقيق.

ولا شك أن المقاومة اللبنانية قد قدمت درسا في معالجة القنوط العربي أمام الغرور “الإسرائيلي”. ولكن العنصرية “الإسرائيلية” لاتزال بحاجة الى معالجة، وهي لن تعالج الى أن يقدر العرب معنى المطالبة بمحاكمة المجرمين، المشبوهين والمتهمين بارتكاب جرائم حرب في فلسطين ولبنان ومصر وسوريا. إن التعامل مع قضية الأسرى المصريين يثير ألف سؤال حول قيم الانسان ويتصل ايضا بالتحقيقات بالمسؤولية عن كوارث وحوادث داخلية ذهب ضحيتها مواطنون أبرياء. وتلك الصور لأطفال ينتشلون من تحت الأنقاض بعد كل قصف “إسرائيلي” لقرية جنوبية أو للضاحية والبقاع، هل نسيت؟ هل نسي قصف قوافل المدنيين الفارين من تحول قراهم الى جحيم؟

الحقيقة أنني استغرب هذا الاهتمام العربي بتحقيقات لجنة فينوغراد وتفاصيلها. أفهم اهتمام حزب الله باعتراف رسمي “إسرائيلي” بالفشل مقابل تشكيك عربي مستمر عند بعض من يعتقدون ليس فقط أن “إسرائيل” نجحت في لبنان بل أيضا أن أمريكا نجحت في العراق. وأفهم اهتمامه بالدروس العسكرية التي يريد استخلاصها من التقرير “الإسرائيلي”، ولكن عدم الاهتمام بهذا التراشق بالتهم بين “إسرائيليين” يجب ان يكون سمة تعامل المزاج السياسي العربي. السياسيون ينتشرون كالضباع حول جثة أولمرت لنهشها واقتناص مقعد نيابي في الانتخابات القادمة أو وزاري في الحكومة الحالية، أو لتجنب المسؤولية وتقليل الضرر اللاحق بهم. لماذا يجب ان يهتم العرب بهذه التفاصيل القادمة من كرنفال الانتهازية السياسية وسيناريوهات وسائل الإعلام “الإسرائيلية” لما بعد أولمرت؟ باختصار إن استمر أولمرت في منصبه معانداً مصيره سوف يستمر مشلولا سياسيا، وإن استقال يحل مكانه عضو من كاديما لمرحلة انتقالية لا تتخذ فيها قرارات مهمة، وعلى كل حال الانتخابات المبكرة قادمة، وسوف يُطالب العرب بأن ينتظروا نتائجها، وربما يقنعهم أحدهم من الأصدقاء الامريكان بالرهان على مرشح دون آخر... وهو سياق لم يتغير منذ ان قرر العرب ان يهتموا بالشأن “الإسرائيلي” الداخلي من دون ان يهتموا بكيفية التأثير فيه بدل الانخراط به، فاحتواهم وتحولوا الى معلقين ومفسرين له من دون ان تترتب على ذلك نتائج متعلقة باستراتيجية من اي نوع.

يجب ان ينصب اهتمام الراي العام العربي على محاكمة المجرمين ومحاسبتهم، فقد نقل الضحايا تحت ستار من الإثارة الزائفة من امور مملة تجري في “إسرائيل” الى الخلف. والمشهد الجاري بين فينوغراد وأولمرت ووزيرة خارجيته ورئيس ائتلافه وشيمون بيريز الأبدي الذي ينتظر ان يخرج من كل هذا كرئيس حكومة ولو لشهرين من دون أن يصرح فيفتح فما للشيطان ولطالعه السيئ، ينتظر بتوتر وصمت لئلا يفتح فمه فتسقط اللقمة وهي على حافة الفم كما سقطت كل مرة.

ماذا يهمنا من كل هذا ما دامت “إسرائيل” لن تحاكم المجرمين الملطخة أيديهم بالدماء؟ لقد دفع بالضحايا الى خلف المسرح السياسي ليخلوا المنصة لمسرحية عبثية جديدة يتحول فيها العرب الى متفرجين كسالى، والمصيبة أنهم لا يستنتجون منها أمرا حتى بالنسبة لمبادرة السلام التي رغبوا بإحيائها في فترة افول أولمرت.

واجب الإعلام العربي والسياسة العربية أن يرفضا اعتبار هذه اللعبة مركزية. فلتحتل عناوين رئيسية في “إسرائيل”، أما عربيا فيجب أن يسأل السؤال حول مصير المسؤولين عن المذابح التي وقعت بحق لبنان وفلسطين في ذلك الصيف. أي عزوف عن هذا السؤال أو تجاهل له يؤكد العنصرية “الإسرائيلية” التي تستهجن ان يسقط “إسرائيلي” واحد مقابل قتل آلاف العرب، وأن يخطف جندي واحد مع بقاء آلاف المخطوفين العرب في السجون.

بل ولم لا يمكن ان يشغلونا بمحاكمة مثقف عربي من الداخل على حديث مع لبنانيين وعلى مقال وموقف مبدئي وفكرة ديمقراطية وانتماء عربي، وأن يحاكمه المجرمون أنفسهم ويتوحد ضده اليسار واليمين والصحافة نفسها والصحافيون كما في بداية حرب لبنان. ويمكن أن نتساءل ايضا لماذا لا يسمح هذا المثقف العربي نفسه بمحاكمته بدل محاكمتهم ليس على حديث ومقال وفكرة وبرنامج ولو كانت عنصرية بل على قتل الآلاف؟

عن الخليج