ما ذنب هذا الشعب الجريح الذي ينزف دماً منذ مئات القرون وتزهق أرواح أبنائه مجاناً كأنهم يدفعون ضريبة اللعنة الإلهية التي حلت عليهم لذنب لم يرتكبوه سوى كونهم ولدوا عراقيين؟ لو كان بيننا في العراق روائياً عظيماً من قامة غابرييل غارسيا ماركيز لكتب لنا رواية "مائة عام من الفوضى" ، ولو كان بيننا مخرجاً مبدعاً من طراز محمد الأخضر حامينا أو محمد ملص لصنع فيلماً بعنوان "وقائع سنوات العذاب" و " كوابيس المدينة"، ولو كان بيننا فنان تشكيلي من مصاف بيكاسو لرسم لنا مايعادل مئات من لوحة جرنيكا الشاهد الحي عن الحرب الأهلية الإسبانية ، ولو كان بيننا مؤرخاً مثل الذي كتب تاريخ الأمم لكتب لنا مؤلفاً يحمل عنوان "تاريخ المحن".

هذا هو واقع وادي الرافدين اليوم والذي خلده الروائي عبد الرحمن منيف في روايته الموسوعية أرض السواد والتي تتوقف عند حدود التاريخ الحديث لعراق اليوم ولم تسعفه الأيام ليكمل المشوار ويخلد لحظات الألم والمأساة والقسوة التي تغلف بلد التمرد والثورات ضد الظلم والاستغلال والاحتلال والقمع والاضطهاد منذ بداية القرن الماضي إلى مابعد منتصف العقد الأول من القرن الحالي.

هذا هو قدر العراق وهذا هو قدرنا أن نقدم القرابين ونسقي الأرض بالدماء الطاهرة على مر التاريخ ونتجرع مرارة الطغيان والإذلال ولا نستسلم أو ننهار . سننتفض ونثور طالما بقي عرق ينبض في أجسادنا وحلم يجول في أرواحنا. مرت على هذا البلد حقب كان العالم فيها يخشى من غضب العراق وسطوته ، وأعقبتها حقب شهدت على إنكساراته وخضوعه وصمته .

كان غنياً عندما كان الآخرون فقراء فاستغلوا عطفه وكرمه وإنسانيته فنهبوه وبددوا ثرواته ثم جاع وارتمى في أحضان الفقر والحاجة فتكالبت عليه السكاكين والطعنات وكبلته القوى الغادرة بالديون ومزقته بالمؤامرات والدسائس والتدخلات .استفاد منه الغرباء وحرم منه مواطنوه الأصلاء. أين العزة والكرامة والسيادة ودول الجوار تستهين بالعراق ورموزه فإيران تمنع عبور طائرة رئيس الوزراء في أجوائها بلا سبب مقبول أو عذر مبرر والمملكة العربية السعودية تلغي زيارة كان مزمعاً أن يقوم بها رئيس حكومة العراق المنتخبة وبلا أي اعتذار أو تبرير مقنع ، وحتى الجيش العراقي والقوات الأمريكية المحتلة تريد أن تضرب بعرض الحائد أوامر القائد العام للقوات المسلحة ورئيس وزراء الدولة بحجج وذرائع واهية بعد أن أصدر أوامره بوقف تشييد الجدار العازل في الأعظمية وغيرها من مناطق بغداد كالعامرية والغزالية والخضراء .

العناصر المسلحة والميليشيات الخارجة على القانون والإرهابيون والعصابات المنظمة تعيث بالأرض فساداً إلى جانب فساد الدولة وجهازها الإداري الذي ينهش البلد كخلايا السرطان والذي يدفع الثمن هو المواطن وحده فقط من دمه وقوته اليومي وتدمير أعصايه وإهانته وإذلاله في كل لحظة في ظل كل الأنظمة التي تعاقبت على حكمه منذ الطاغية الأول معاوية إبن أبي سفيان، والذي يجله البعض وينعته بسيدنا معاوية ويعتبره من الصحابة العدول ، وانتهاءاً بصدام حسين الذي رمي في مزبلة التاريخ بعد ما يزيد على الأربعة عقود من الطغيان والوحشية التي لامثيل لها في تاريخ الاستبداد الحديث.

ألا يكفي ذلك ياسادة العراق الحاليين الذين جئتم بحجة إنقاذ هذا المواطن من كل هذا الظلم والهوان الذي أحاق به عبر القرون؟ إنزلوا إلى الشارع لتروا بأعينكم هول الكارثة وعمق الهوة التي تفصل بينكم وبين ابناء أرض دجلة والفرات . من يتجول في شوارع وطرقات المدن العراقية يشعر وكأنه يتنزه في مدينة اشباح أو في أرض قاحلة لاحياة فيها غير القمامة والخرائب والدمار والكلاب السائبة والجائعة كالبشر والأوساخ والغبار ومياه المجاري والمستنقعات التي تنساب بين الأحياء والبيوت الآهلة بالسكان المعتصمين خلف الجدران أو المختفين وراء ستائر الصمت والخوف والترقب بانتظار الخلاص الذي لايأتي كمن ينتظر غودو الذي لم يراه أحد من قبل.

لم يعد العراق موجوداً إلا في عيون وذاكرة أبوحالوب عراب مقهى الروضة في دمشق الذي كان يحج إليه المنفيون من كل حدب وصوب في سنوات المنفى الطويلة القاسية قبل سقوط الطاغية ليستقوا منه الحنين والحكايات القديمة والأسماء التي طواها النسيان . واليوم مازال نهر المنفى يجري بعنفوان تنظم إليه قوافل جديدة من العرايا والجائعين ومسلوبي الإرادة الهاربين من جحيم الموت الذي يلاحقهم حتى في منفاهم تجاوز عددهم الأربعة ملايين ويسمون بمنفيي ما بعد السقوط لا أحد يعرف كيف يعيشون وكيف يؤمنون لقمة عيشهم ويواجهون الصعوبات والتنغيصات الإدارية والاحتيالات والابتزازات التي تتربص بهم من كل حدب وصوب تهددهم بترحيلهم من منفاهم المؤقت في مصر وسورية والأردن ولبنان واليمن والإمارات إلى جهة مجهولة قد تكون مدن الموت القابع خلف الأفق .

كان العراق ومايزال سجناً كبيراً يخنق نزلائه ويسومهم العذاب والتخندق خلف أسوار الحقد والخوف والعزلة الطائفية والإثنية. كتل كونكريتية وأسلاك شائكة وفوهات بنادق مصوبة وعبوات ناسفة وسيارات مفخخة وأحزمة ناسفة وأقبية تعبق بالعفونة والأنين وجثث المعتقلين الحية ـ الميتة وأسواط الجلادين وأدوات التعذيب والظلمة الرطبة من جانب، وإعلام تفوح منه رائحة الغش والكذب والخطاب الدعائي الزائف وقلب الحقائق من جانب آخر. ألم يحن وقت الظهور أيها المنقذ المختبيء في سراديب سامراء وفي تلافيف أدمغة البسطاء واليائسين ؟ ألا ترى هذه الملحمة الكونية المتمثلة بالذبح اليومي لأتباع محمد وذريته وكأنهم يدفعون ثمن خطيئة آدم وقابين ودم الحسين الذي أبيح غدراً من أجل المال والجاه ومتاع الدنيا؟

أمريكا أخفقت وهي تعترف بذلك ولايمكن لأحد أن يجادل في ذلك لكن فشلها ألحق الدمار والبؤس في العراق ولايزال الشر هو الذي يتحكم برقاب العباد . هل نحن حالة ميئوساً منها أو مرض عضال في جسم الإنسانية أو مشكلة مستعصية على الحل أم لايزال هناك أمل يقبع خلف غمامة الزمن؟ ماكان لجحيم دانتي أن يظهر للوجود لولا لعنة العراق الأبدية وكأني به ركب عجلة الزمن وأبحر في مجاهل المستقبل وحط الرحال في عراق إبن العوجة وكاوبوي تكساس ومواكب السبايا والمهجرين والجثث المقطوعة الرؤوس فشاهد مايكفي لمليء أوعية الذاكرة بما يحتاجه من مشاهد الجحيم. غربان الشر والإرهاب تحوم فوق سماء العراق وترميه بحمم الحقد والتمزيق الطائفي لتنهش جثث ضحاياها المتحللة في العراء فهل هناك أبشع من ذلك؟ إنها معركة حياة أو موت وعليها يتوقف مصير العراق فهل يحق لنا أن نأمل أم علينا أن نغرق في اليأس؟