نستطيع الخروج من أسر المناسبة لأن تكرار "يوم الشهداء" تحول إلى مظهر احتفالي وإلى صورة تبدو احيانا نمطية، رغم أنه كحدث ينقلنا على مساحة خاصة لمسألة "التصفية الثقافية" التي عشنها في زمن "جمال باشا" وربما تتكرر منذ احتلال العراق على مستوى إقليمي كامل.

ما حدث في بداية القرن الماضي لم يكن مجرد استباحة أو حقد لأنه في النهاية كان محاولة لإنهاء "حالة ثقافية"، فالمشانق كانت تعلق لمفكرين وكتاب وليس لـ"متمردين" أو "ثائرين"، وكانت أيضا حركة سريعة للالتفات إلى الوراء او إهمال الواقع المعرفي الذي انتشر سريعا ما بين دمشق وبيروت، فظهرت المشانق لتعيد ترتيب "الجغرافية – السياسية"، وهي نجحت في إفراغ المنطقة من اهم مفكريها، فما الذي يميز هذا الحدث عن "التصفية الثقافية" التي تحدث اليوم.
بالطبع فإن المقاربة بين الماضي والحاضر لا يمكن أن تتم إلا بملاحظة نقطتين أساسيتين:
  الأولى أن مشانق الأمس كانت تحاول إعادة الزمن إلى الوراء عبر "الرموز" التي تم إعدامها، اما اليوم فإن هذه التصفية تأخذ طابعا اجتماعيا واضحا لأنها تسعى للتعامل مع كل أدوات المجتمع، ابتداء من قيم الفرد وانتهاء بالدولة.
  الثاني أن مسألة النخب كانت أكثر وضوحا لأنها شكلت تيارا ابتداء من مؤتمر باريس الذي شكل نقطة الافتراق باتجاه الأزمنة الجديدة، بينما لم يعد هذا المصطلح بنفس وضوح الماضي، وتشعب الحياة أعطاه لونا ممتدا رغم إصرار البعض على الانتماء إلى النخب.

ما يحدث اليوم يشكل صورة جديدة للردة التي حاول جمال باشا خلقها في بداية القرن الماضي، مستعيدا "الولاء" القديم لمركزية الإمبرطورية" القديمة، وكان من السهل التعامل مع فئة محدودة، لكن من الصعب إيقاف عقارب الزمن. أما ما يحدث اليوم فهو معاكس نوعا رغم امتلاكه لأهداف مماثلة، فالعودة لا تتم عبر تصفية النخب، بل بإنهاء "زمن كامل" وربما مسيرة أجيال اعتقدت لفترة أنها استطاعت الانتقال إلى الأزمنة الحديثة.

مشكلة التصفية الثقافية اليوم أنها تطال "الدولة" والتفكير الاجتماعي الذي يعتمد على الانتماء إلى المجتمع بدلا من الدوائر الأصغر، ومعركة النخب، ان وجدوا، مرتبطة أساسا بالخط الثقافي العام الذي انطلق منذ بداية القرن الماضي، فالمسألة ليست أخطاء سياسية متراكمة، إنما بالمساحة الثقافية الطويلة التي شكلها المجتمع منذ انفصاله عن الدولة العثمانية.

نخب الماضي كانت مستعدة للتلاقي على "الثقافة الجديدة" رغم التباينات التي ظهرت بوضوح في مؤتمر باريس، ودفعت ثمنا باهظا لهذا الأمر، أما اليوم فإن النخب تبحث عن الحلول الإجرائية التي تطال السياسة بالدرجة الأولى بينما تنجرف الثقافة المعاصرة باتجاه الماضي.