انتصرت فرنسا "القطيعة مع عادات الماضي وأفكاره وسلوكه"، وفق توصيف لنتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، كان للفائز فيها نيكولا ساركوزي.. وهزمت فرنسا الأخرى، هذه التي لم تشأ هذه القطيعة، أو تلك التي أعطاها صورتها الخاسرة وعجل في رسمها ما تبدى من بهوت شاب ملامح يسارها وبرامجه وأدائه و تمايز طروحاته. فانقسمت إثر إعلان نتائج هذه الانتخابات إلى اثنتين:
فرنسا المنتشية المحتفلة بالفوز الساركوزي في ساحة الكونكورد، والأخرى المنكسرة المتظاهرة، أو المحتجة على هذا الفوز أو على خسارتها، في ساحة الباستيل...
ما الذي جرى؟!
فاز اليمين وخسر اليسار... ووصل نيكولا ساركوزي إلى الايليزية، وفشلت أو قصرت سيغولين رويال في التمكن من تخطي عتبته... لكن السؤال، هو، أي يمين فاز، مادمنا نعرف أي يسار خسر؟!
لم يفز اليمين المتطرف الممثل عادة في رمزه شبه الدائم لوبين، ولا المعتدل الممثل في مرشح الرئاسة الثالث ترتيباً أي الخاسر في الجولة الانتخابية الأولى... ولا حتى ضمناً، ما كان بينهما من يمين، أي حزب ساركوزي نفسه الإتحاد من أجل الجمهورية، أي بما يعني انتصار بقايا ما بقي فيه من الديغولية المفترضة، التي هو مرشحها ووجهها القادم المفترض، هذه الديغولية التي يبدو أن الرئيس الراحل عن الأليزية، جاك شيراك، هو آخر أفراسها العرجاء المتبقية... وإنما فازت الساركوزية المبشرة بالقطيعة مع الأمس الفرنسي أفكاراً وسلوكاً... فازت لأن حصانها الرابح عرف كيف يدغدغ مكامن الحنين المكبوت لدى الفرنسيين إلى أمجاد الحقبة الاستعمارية الغابرة، وأن يحرك فيهم ما غفى من زهو الماضي الامبراطوري البائد، وهو الذي دأب عبر مسيرته السياسية المثيرة للجدل، منذ أن بدأت وإلى وصوله إلى سدة الرئاسة في الأليزية، على مراكمة مقدمات ما جناه فيما بعد انتخابياً من حصاد ما قد سبق وأن زرعه، عبر إثارته للغرائز العنصرية الفرنسية، تلك المختبئة وراء هواجس الخشية على الهوية الفرنسية... هذه الهوية المفترض أنها المهددة من قبل ضحايا تلك الحقبة وذلك الماضي، الممثلين فيما يعرف بالمهاجرين، وفي المقدمة من هؤلاء ما يعرف بقاطني الضواحي... هؤلاء الذين عاملهم ساركوزي بالفظاظة المعروفة عنه والتي وسمت سياساته اتجاههم كوزير للداخلية، و أخيراً إبان معالجته الفجة لأحداث ما وصفت بإنتفاضتهم الشهيرة... لقد سطا ساركوزي في حملته الانتخابية بجسارة على يافطات اليمين المتطرف، وزواد في حملته على اطروحات اليمين المعتدل الإنتخابية، وأفاد أيما إفادة من بهوت اليسار، فأصبح بلا منازع رجل فرنسا الجديدة التي طفق يبشر بها.
من هو ساركوزي هذا الذي يجمع المعنيون و المتابعون على أن فرنسا معه أو به غيرها عن تلك التي كانت قبله؟!
قبل الإجابة، علينا أن نضع في الحسبان أن السياسة الخارجية و الدفاع، وفق الدستور الفرنسي، هي من اختصاص الرئيس، وانطلاقاً من هذا يمكن لتعريف الرجل الإكتفاء بما يلي:
دولياً، أول ما سارع إليه عقب إعلان فوزه هو طمأنة الأمريكان إلى إمكانية اعتمادهم على صداقته، وأول من اتصل به مهنئاً هو الرئيس بوش، الأمر الذي يؤشر على أن المستشارة الألمانية أنجلا ميركل، التي جنحت ببلادها، بعد طول نوع من تمنع ممن سبقها إلى المستشارية، إلى الأمركة، سوف تجد من الآن فصاعداً من ينافسها في خطب ود واشنطن، الأمر الذي سيكون له أثره البالغ على سياسات الإتحاد الأوروبي الدولية، التي شابها سابقاً بعض من تمايز عن السياسات الأمريكية مرده المشاكسة الفرنسية الألمانية لها، وإن لم يبتعد هذا الإتحاد يوماً عن مأثرة الالتحاق في نهاية المطاف بالركب الأمريكي... إننا من الآن فصاعداً، قد لا نرى اعتراضاً فرنسياً على المشيئة الأمريكية، وبالتالي قد لا نشهد دوراً لفرنسا يمكن وصفه بالفاعل أوروبياً... ويمكن الإستطراد هنا، فنذكر لساركوزي موقفين: الأول رفضه المطلق لدخول تركيا الإتحاد الأوروبي، بذريعة الإختلاف الحضاري معها أو بزعم موانع تعود إلى الأسباب الجغرافية. والثاني اعتباره أن البرنامج النووي الإيراني "يشكل تهديداً مستمراً لوجود إسرائيل وجنوب شرق أوروبا"!
وهنا نأتي إلى مواقفه المعلنة من الصراع في بلادنا. لقد سبق لساركوزي المباهي بصداقته مع نتنياهو، والحاصل على عديد الجوائز من المنظمات اليهودية، أن استدعى، وهو وزير للداخلية، السفراء العرب في العاصمة الفرنسية ليؤكد لهم أنه صديق لإسرائيل... وكان منه، في أول خطاب له أمام الجالية اللبنانية في فرنسا، أو الفرنسيين من أصل لبناني، أن قال للحضور الكريم أن حزب الله منظمة إرهابية... ونستطرد لنقول، وكان مستشاره للدفاع حينها نائب باريس اليهودي الداعم لإسرائيل و المتحمس لغزو العراق بيار لولوش... والمفارقة، أن فوز ساركوزي بالرئاسة يصادف حلول الذكرى الثانية والستين للمذبحة التي ارتكبها الجيش الفرنسي ضد الجزائريين المتظاهرين في نهاية الحرب العالمية الثانية مطالبين بالاستقلال، حيث ذبح يومها 45.000 ألف شهيد جزائري... لعلها كانت المكافأة الفرنسية لهم. بعد ان اسهم عرب المغرب العربي كما هو معروف في تحرير فرنسا وأجزاء من أوروبا من نير النازي... وهنا، ونحن إزاء هذه الذكرى، لابد لنا من التوقف أمام مسألتين لهما دلالتهما، الأولى، هي أن نيكولا ساركوزي هو ابن لمهاجر مجري وأم يهودية، وأن شاركوزي الأب بالشين وليس السين، وفق التسمية المجرية الأصلية، قد خدم كمتطوع في الفرقة الأجنبية التي كان لها مآثرها الدموية في الجزائر قبل الاستقلال... والثانية أن الابن الذي تفرنس أبيه عبر الفرقة الأجنبية وقتال الجزائريين آنذاك، وبنى أمجاده التي أوصلته اليوم إلى الأليزية عبر قمع المهاجرين، والجزائريون جزء كبير منهم، ربما يزاود اليوم في فرنسيته ليغطي على جذوره المهاجرة، فهو القائل، إزاء مطالبة الجزائريين فرنسا الإعتذار عن ماضيها الاستعماري الدموي في الجزائر: لن نعتذر عن أخطاء آبائنا... والمفارقة هنا انه، وهو يرفض ذلك، يطالب الأتراك بالاعتذار عن مذابح الأرمن!
في قرية مجرية صغيرة ينحدر منها والده، احتفل المجريون هناك بشاركوزي المجري الذي أصبح ساركوزي الفرنسي، أو كما قال مختار القرية: " معجزة الصغير شاركوزي في الأليزية"!
...وفي اسرائيل المبتهجة بفوز ساركوزي الرئاسي لدرجة تشبيه البعض له ب"الامبراطور التاريخي نابليون بونابرت"، حيث تقول صحيفة "يدعوت احرنوت": "ان الجذور اليهودية للرئيس الفرنسي الكاثوليكي أنعشت آمالاً كبيرة في اسرائيل"، وحيث رحبت زميلتها "معاريف" بهذه "الثورة التي سمحت لصديق واضح لاسرائيل بالوصول إلى الأليزية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة"، يقول نتنياهو في مقال له في "يدعوت أحرونوت" بعنوان "ساركوزي صديقي":
إن السياسة الخارجية الفرنسية "لن تتسم بعد اليوم بتوجهات مضادة لاسرائيل، نحن نقف للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية أمام رئيس مختلف عن توجهات الرئيس الأسبق شارل ديغول الذي رأى في الولايات المتحدة منافساً لفرنسا. وهذا تغيير مهم"... بقي ان نشير إلى أن صحيفة "جيروزليم بوست" ذكرت أن أرنو كلارسفيلد الحامل للجنسية الاسرائيلية، والذي خدم في سلاح الحدود، وعلى الحواجز الأمنية الاسرائيلية حول بيت لحم، والذي قال أكثر من مرة أن الفلسطينيين مسؤولون عن ضحايا المحرقة اليهودية في أوروبا، هو مرشح قوي لتولي وزارة الهجرة والهوية الوطنية الفرنسية في أول حكومة ساركوزية!
إذن لقد ركب ساركوزي بمهارة صهوة الموجة الفرنسية المحافظة، وامتطى بجدارة المزاج الفرنسي العام الملتفت يميناً، قائلاً:
"إن الفرنسيين اختاروا القطيعة مع الماضي... وسأطبق هذا التغيير، لأن هذا هو التفويض الذي حصلت عليه"!
... وعليه، وإذا ما طبق ساركوزي هذه القطيعة، ترى ماهي مسوغات رثاء البعض منا، لما تسمى "سياسة فرنسا العربية" المزعومة؟!
لهؤلاء نقول: أنه لم تكن فرنسا في يوم من الأيام، ومنذ أن أقاموا اسرائيل، إلا مع إسرائيل... مع فارق واحد هو الفارق بين الديغولية ونسختها الجديدة أو وريثتها الساركوزية، أي هو أن هذه المع إما فرنسية بحتة أو تابعة للولايات المتحدة... أجل، إن فرنسا بلا ديغولية هي فرنسا ساركوزية، و تذكرنا بغيموليه والعدوان الثلاثي عام 1956، لكن يجب أن لاننسى أن القوة النووية الاسرائيلية كانت قد بنيت بمساعدة فرنسية، وأن التفوق الجوي الإسرائيلي منذ قيام إسرائيل كان قد بدأ بفعل طائرات المستير الفرنسية التي زودت بها في ذلك الحين، أي أن القوة النووية والمستير تم الحصول عليها إبان المرحلة الديغولية... إذن نحن اليوم إزاء انعطافة استراتيجية فرنسية باتجاه تكامل أكثر مع الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة إن لم يكن اندراج كامل معهما، وهذا أمر بدأه الرئيس الذاهب شيراك قبل القادم ساركوزي... أي أنه لن يتغير الكثير في المواقف الفرنسية، المنافقة لا المؤيدة عادة، من قضايا العرب... بمعنى أنه في الجوهر لن يكون ساركوزي اليميني أكثر تأييداً لإسرائيل من متيران الاشتراكي... الفارق هو أن هذه المواقف كانت فيما قبل تبدأ في الذبذبة وتنتهي من ثم بالالتحاق المعتاد بالسياسة الأمريكية، أما بعد وصول ساركوزي إلى الأليزية فإن الأمور ستكون الأوضح، أمركة أكثر سطوعاً، وعلاقة مع إسرائيل أكثر حميميةً"... الطريف أن بعض الفلسطينيين وتعقيباً على الحدث الفرنسي قد ناشد ساركوزي المساعدة في رفع الحصار المضروب حول أقفاص أو كانتونات السلطة المتهاوية تحت الاحتلال!!!

مصادر
سورية الغد (دمشق)