يبدو أن السؤال الذي يدور وراء الكواليس في واشنطن اليوم، هو ليس ما إذا كانت القوات الأميركية ستنسحب من العراق أم لا، وإنما متى وكيف يتم الانسحاب، والأهم من ذلك، من الذي سيحل مكان القوات الأميركية في العراق؟

ذلك أن الخسائر الأميركية في العراق وصلت إلى درجة لم تعد واشنطن تقدر على مجاراتها. إذ تشير الإحصاءات الموثوقة غير الرسمية إلى أن عدد القتلى من الجنود الأميركيين في العراق، تجاوز الـ20 ألف قتيل، وأن عدد الإصابات حتى شهر كانون الثاني (يناير) الماضي بلغ أكثر من 50 ألف إصابة، منها 20 ألف إصابة خطرة تشمل إصابات إعاقة دائمة، إضافةً إلى هروب ما يقرب من عشرة آلاف جندي أميركي من الخدمة العسكرية.

الأسوأ من ذلك في نظر واشنطن، أن الأحوال في العراق لا ينتظر لها أن تتحسن، حيث المقاومة العراقية تزداد شراسة يوماً بعد يوم، بسبب الأعداد المتزايدة التي تنضم إليها من داخل العراق وخارجه، وبسبب تطور تكتيكات وأساليب الهجوم التي تتبعها المقاومة العراقية، خصوصاً في ما يتعلق بالقنابل البشرية التي لم يجد «الكاوبوي» الأميركي سبيلاً لمقاومتها.

إضافةً إلى ذلك، فإن عدد القتلى العراقيين منذ الغزو الأميركي - البريطاني على العراق، جاوز الـ 700 ألف قتيل، كما شُرِّدَ ما يزيد على مليوني شخص، وهو أمر يبعث على القلق من الجانب الأميركي، الذي يزعم بأنه جاء ليحقق الرفاه للعراق ليكون مثالاً يحتذى لبقية دول الشرق الأوسط!

غنيٌ عن القول إن فضائح إدارة بوش في العراق لا تزال تتوالى نتيجة سوء إدارة الأزمة العراقية. وشملت هذه الفضائح - على سبيل المثال لا الحصر- الارتكابات في سجن أبي غريب، واغتصاب الفتيات العراقيات، والقتل العمد للمدنيين العراقيين وإساءة التعامل مع جثث القتلى، كما في قضية قائد إحدى السرايا، فرانك ووترش الذي تجري حالياً مقاضاته في كاليفورنيا بتهمة قتل 24 مدنياً عراقياً من العزل، وحرق جثثهم والتبول عليها، ثم بعد ذلك كله، إلقاء التهمة على الجيش العراقي بفعل ذلك، بحسب شهادة زملائه أمام المحكمة الأميركية.

ولعل آخر فضائح الإدارة الأميركية في العراق، ما يمكن أن يطلق عليه بـ «سرقة القرن»، إذ ورد في مسودة تقرير لمكتب المحاسبة التابع للحكومة الأميركية نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» قبل يومين أجزاءً منه. إذ يتساءل التقرير عن ضياع ما بين 100 و300 ألف برميل يومياً من إنتاج النفط العراقي منذ الغزو الأميركي - البريطاني للعراق، إما بسبب الفساد أو بسبب عمليات التهريب، الأمر الذي يعني ضياع بلايين الدولارات من عوائد النفط العراقي.

تأتي هذه الفضيحة الجديدة لتؤكد من جديد تهماً - ليست بالجديدة - بالفساد، كانت أشارت إليها تقارير صحافية موثوقة. فمنذ فترة، أشار تقرير لـ «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) إلى أن «الفساد ينخر قطاع النفط في العراق». ونسب التقرير إلى مسؤول نفطي عراقي قوله: «إن منتجات نفطية تم تهريبها بطرق غير مشروعة، كما تمت سرقة نفط خام بشكل مباشر من أنابيب النفط ومن التسريبات».

ومعلوم أن عدم الشفافية في التحقق من عائدات النفط العراقية هذه، يأتي مخالفاً لقرار مجلس الأمن رقم 1483(2003). إذ نصت الفقرة 21 من القرار الآنف الذكر الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، على «أن تكون جميع صادرات العراق من مبيعات النفط والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي عقب تاريخ اتخاذ هذا القرار، متفقة مع أفضل ممارسات السوق الدولية السائدة، وأن يتولى مراجعة حساباتها محاسبون عموميون مستقلون مسؤولون أمام المجلس الدولي للمشورة والمراقبة... من أجل كفالة الشفافية... وأن تودع جميع العائدات في صندوق التنمية للعراق...»، وهو الأمر الذي لم تعمل الإدارة الأميركية على تنفيذه. وقد أدركت لجنة بيكر - هاملتون هذا الخطر، فأشارت في التوصية رقم 23 لتقريرها أنه «يجب أن يؤكد الرئيس الأميركي مجدداً أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى السيطرة على نفط العراق».

يذكر أن تقريراً كان قد صدر عن عدد من الجنرالات في الجيش الأميركي في كانون الثاني (يناير) الماضي، أعطى مهلة ستة أشهر لكسب الحرب في العراق، وأنه بحسب التقرير العسكري إذا لم يتم حسم المعركة خلال هذه الفترة فمن غير المنتظر للقوات الأميركية أن تحقق نصراً عسكرياً في العراق.

اليوم حيث تقترب المهلة العسكرية من الانتهاء، ربما بدا واضحاً للديموقراطيين وبقية الجمهوريين خارج سرب الرئيس ونائبه، أن استمرار وجود القوات الأميركية في العراق أمر غير مجدٍ من جميع النواحي: السياسية والاقتصادية والعسكرية، إضافة إلى الإضرار بسمعة الولايات المتحدة.

والإدارة الأميركية - بحسب تقارير عدة - بسبب الورطة العراقية، تبحث اليوم عن مخرج يحفظ لها ما تبقى من ماء الوجه، ليكون انسحابها مقبولاً سياسياً أمام شعبها، كأن يتقدم البرلمان العراقي مثلاً بطلب جدولة انسحاب «قوات الحلفاء»، لأنه أصبح قادراً على حفظ أمنه وأمانه، ويجد هذا الطلب قبولاً في واشنطن.

على انه من المثير للانتباه أن الحكومة العراقية الحالية ممثلة في رئيس الدولة ورئيس الوزراء تطالب ببقاء القوات الأميركية، ربما لعلمها الأكيد أن بقاءها مرهون ببقاء تلك القوات. ولكن قد تحظى الإدارة الأميركية، بموافقة عدد كاف من أعضاء البرلمان العراقي، للتقدم بطلب جدولة سحب قواتها، وقد تتم الجدولة - التي ستحظى بتأييد أميركي داخلي واسع - بأسرع مما يتوقع.

ولكن، وقبل أن تفعل الإدارة الأميركية ذلك، فإن السؤال الذي يشغل ذهن صانعي القرار الأميركي هو: من سيخلف القوات الأميركية في العراق؟ إذ أنه من المسلم به أن الحكومة العراقية ليست قادرة على إحلال السلام أو المحافظة عليه.

ويبدو أن الإدارة الأميركية ستجد نفسها أمام أحد خيارين أحلاهما مر: فأما الخيار الأول فهو أن تترك الولايات المتحدة العراق وأمره من دون اكتراث بما يحل به بعد رحيل قواتها، وهذا فيه من المخاطر ما قد يترك المجال مفتوحاً أمام المقاومة العراقية التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بـ «القاعدة» أن تجول وتصول في العراق، وإذا ما تمكنت المقاومة العراقية الوثيقة الصلة بـ «القاعدة» من تحقيق هدفها الأول، فقد يكون القضاء على القوات الحكومية التي جاء بها الاحتلال، أسهل بكثير من طرد القوات الأميركية، خصوصاً أن المقاومة ستكون تتمتع بنشوة النصر، الذي قد يكون من الصعب كبح جماحه.

وإذا ما تم لـ «القاعدة» ما تريد، فإن مخاطر ذلك - في نظر واشنطن - قد لا تقف عند حدود العراق، بل قد تتعداه إلى دول الجوار، وهو الأمر الذي كثيراً ما أشار إليه الرئيس الأميركي بوش في خطاباته في التخويف من خطر «قاعدة ابن لادن»، كما انه الأمر الذي حذرت منه التوصية رقم 35 من تقرير بيكر - هاملتون السابق الذكر، في أن تبذل الولايات المتحدة جهداً لعزل تنظيم «القاعدة» لخطرها الجسيم.

وأما الخيار الآخر، فهو تحالف أميركي - إيراني ضد خطر «القاعدة»، بعد خروج القوات الأميركية من العراق. وهو أمر غير مستبعد من الناحية السياسية الواقعية، على رغم غرابته الظاهرية. فما يجمع الولايات المتحدة وإيران أكثر مما يفرقهما. وبغض النظر عن الخلاف الأيديولوجي، فإن سياسة إيران الفعلية على المستوى الدولي، أثبتت «عقلانيتها» في البحث عن مصالحها القومية، حتى مع ألد خصومها.

وقد بدت «عقلانية» طهران منذ وقت مبكر من الثورة الإيرانية في التعامل غير الرسمي مع واشنطن في صفقة ما عرف لاحقاً في الولايات المتحدة بـ «إيران كونترا»، إذ قبلت إيران شراء صفقة أسلحة من «الشيطان الأكبر».

كما بدت «عقلانية» إيران جلية في تعاونها مع الولايات المتحدة في التخلص من نظامي «طالبان» في أفغانستان وصدام حسين في العراق، إذ سمحت في الأولى بعبور الطائرات الأميركية عبر أجوائها لضرب مناطق في أفغانستان، وأمرت في الأخرى المراجع الدينية العراقية بأن تفتي بعدم جواز التعرض للقوات الأميركية، بغض النظر عن المبادئ الأيديولوجية للثورة، المتمثلة في الولاء والبراء. وبالتالي، قد لا يكون مستغرباً حين تحزم واشنطن حقائبها، وتعتزم الرحيل من بغداد، أن تجد نفسها في خندق واحد مع عدو اليوم وحليف الغد، ليس حباً برجال الدين الإيرانيين، ولكن لأنهم في نظر الأميركيين أقل سوءاً من الخيار الآخر، وحيث ليس هناك أحد أقدر من الحكومة الإيرانية على سد الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية. وبذلك يصبح أعداء اليوم حلفاء الغد!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)