على الرغم مما قيل ويقال عن ضعف النظام السوري، ولا سيما بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما نجم من اغتياله من عزلة سياسية عاشها النظام السوري إلا أن تتابع الأيام أثبت أنه لا يزال قوياً وقادراً على مواجهة الضغوط، هذا إن لم نقل إن الخارج ــ تحديداً الإدارة الأميركية ــ لا يزال بحاجة إليه على الأقل في ما يتعلّق براهن الشأن العراقي، وهذا ما أشار إليه منذ بضعة أشهر تقرير لجنة (بيكر ــ هاملتون) بوجوب التفاوض مع سوريا في ما يخصّ الشأنين العراقي والفلسطيني.

أهم عوامل قوة النظام كامنة في غياب البديل الحقيقي له، ومن المؤكد أن النظام السوري يدرك أن سرّ قوته الموضوعية كائن في غياب بديل منه، وهذا ما عبّر عنه مسؤول سوري رفيع المستوى منذ قرابة العامين: «إما نحن وإما الفوضى»؟ وإننا لا نأتي بجديد إذا قلنا إن المعارضة السورية لا تزال ضعيفة بحكم اعتبارات موضوعية وذاتية عديدة، والنظام لم (ولن) يفوّت فرصة كي يُبقي لها حواضن ضعفها، وهذا ما ترجمته على الأقل حملة الاعتقالات التي شهدتها سوريا اعتباراً من أيار العام الماضي! وما تترجمه الآن الأحكام القضائية القاسية في حق بعض الناشطين كأنور البني وسواه.

ولا ضير من القول هنا إن اهتمام المعارضة السورية كاد ينحصر في هرم السلطة وقانون الطوارئ في وقت تجاهلت فيه نخبها البنية التحتية المنتجة للبنية الفوقية، ما كان له أثره بشكل أو بآخر في إضعافها وعزلتها النسبية عن المحيط الاجتماعي المفترض أن يكون حاضناً لها.

على صعيد آخر، نرى أن أغلب رموز المعارضة السورية في الداخل هم من الشيوخ الذين تخطو سن السبعين، وهم في تركيبتهم الثقافية الوجه الآخر للنظام، لا بل إن بعضهم يحمل عقلاً أصولياً إسلامياً أو عقلاً أصولياً قومياً. وربما تلك الأصولية التي نعني هي ما منعتهم من إدانة تصريحات بعض أطراف القوى اللبنانية الرامية إلى قتل الرئيس السوري أواخر العام الماضي، وهي ما تدفعهم كذلك للصمت حيال المجازر التي ارتكبها إسلاميون متطرفون في الجزائر والمغرب منذ فترة قريبة، على نقيض إدانتهم لاعتقال بعض رجال الرأي في دول عربية كالسعودية وسواها. ولا حاجة بنا إلى القول إن المعارضة السورية عاشت في ظل ظروف غير صحية طوال أربعين عاماً أو أكثر، ما يعني أنها بالضرورة وبحكم الشروط غير الطبيعية التي فُرضت عليها تحمل في أحشائها أمراضاً غير طبيعية، لكنها لم تبدُ ظاهرة بوضوح للعيان بعدُ بسبب كونها معارضة وليست سلطة تحت المجهر!

أما في ما يخصّ معارضة الخارج، فلا نكون قد فضحنا سراً إذا قلنا إنه لا قاعدة مجتمعية لها في الداخل السوري، حتى إنها لا تعرف شيئاً عن مشاكله وهمومه سوى ما تردده بعض الألسن الإعلامية في ما يتعلق بقانون الطوارئ وانتهاكات حقوق الإنسان وما شابه، وبهذا المعنى لا نجدها، شأنها شأن معارضة الداخل، تتحدث عن السيرورة التاريخية لتخلف المجتمع، وكأن استبداد النظام وفساده أتيا من فراغ أو بقرار سياسي(؟!) أو أتيا بانقلاب الثامن من آذار متكرسين بانقلاب الراحل حافظ الأسد؟! لن نستغرب هذا التجاهل، إذا ما علمنا أن الكثير من معارضي الخارج لم يستفيدوا من احتكاكهم بثقافة الغرب ومعايشتهم لها، فلا تزال ثقافة الغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية هي البوصلة الموجهة لهم، وهي التي تحدد لهم طرائق تفكيرهم وآليات التغيير التي ينشدونها.

فمعارضة الخارج، بمعظمها، عبارة عن مجموعة من الأثرياء السوريين يقطنون الولايات المتحدة الأميركية وكندا، وفي أوقات فراغهم يمارسون «هواية» السياسة.

من جانب آخر نجد أن ما يجري في العراق من أعمال عنف يومية أو ما يشبه الحرب الأهلية انعكست في مجملها سلباً على مزاج غالبية الشارع السوري وآلية تفكيره (على رغم أنها تعاني العطالة المزمنة)، وهي آلية باتت تخشى مصيراً كالمصير العراقي. ومما لا شك فيه أن أحداث العراق جعلت جلّ السوريين يأنفون من الديموقراطية الأميركية التي تساهم حمامات الدم العراقي ومعتقلات سجنيْ أبو غريب وغوانتانامو في فضح زيفها وارتفاع رصيد لفظها من قبل السوريين بمن فيهم معارضو الخارج المحسوب بعضهم على أميركا.

ومن عوامل قوة النظام كذلك هو غياب الطبقة الوسطى في سوريا، وهو تغييب متعمّد سلطوياً (حسب رأي الكثير من المحللين)، فمن الطبيعي أن الطبقة الوسطى هي حامل لواء التغيير في أي مجتمع كان، وفي أي منحى من مناحي الحياة، وما نشهده في سوريا من قبل بعض المعارضة الداخلية هو، في حقيقة الأمر، ليس أكثر من مجموعة فدائيين يملكون فائضاً من الغيرية على وطنهم ومجتمعهم (بمعزل عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم جزئياً أو كلياً). وربطاً مع غياب الطبقة الوسطى في سوريا، التي نشهد حضورها بقوة في بلدٍ كالسعودية مثلاً ــ بصفتها إحدى دول صناعة القرار في المنطقة ــ إذ من المرجح أن تغيير النظام في سوريا سينعكس سلباً على الأسرة المالكة في السعودية، بمعنى أن طبقتها الوسطى مع مثقفيها ستنشط مطالبة بالتغيير! بكلمة أخرى ليس تغيير النظام في سوريا من مصلحة دولة كالسعودية، ولا حتى في مصلحة النظام المصري كذلك.

عامل آخر أضفى الكثير من عوامل القوة للنظام السوري، يكمن في المستجدات الأخيرة التي طرأت على الداخل الإيراني وملفه النووي، وهو مستجد، خدم النظام السوري من دون شك..

ما سلف ذكره وما لم يسعفنا الوقت في الوقوف عنده يجعلنا نرجح أن النظام ما زال قوياً فعلاً، وأن تراخي قبضته الأمنية بين حين وآخر لا يعكس ضعفه بل يعكس رخاوة إرادوية منه تنمّ عن قوته كذلك.