يمكن القول في العلاقات الأميركيّة – الأوروبيّة اليوم إنّها تتحدّد بسمات ثلاث:

أوّلاً: نهاية حقبة الولاء الأعمى لجورج بوش.

ثانياً: نهاية حقبة العداء للسياسات الأميركيّة.

ثالثاً واستطراداً: ثقة بالنفس حيال الولايات المتّحدة التي أضعفت حرب العراق دورها، واستعداد أكبر، في المقابل، لاتّباع سياسات تريدها واشنطن وتباركها.

هذه السمات، التي تكاد ترقى في مجموعها الى تحوّل رهيف وبالغ الدقّة، متناقض ظاهراً متكامل فعلاً، يمكن العثور على أبطالها وممثّليها في طول القارّة الأوروبيّة وعرضها.

فتوني بلير، الذي كان الرمز الأبرز لسياسة تقوم على مبايعة واشنطن، سوف يغادر 10 داوننغ ستريت في 27 حزيران (يونيو) المقبل، بعدما سبقه خوسيه ماريّا أثنار الإسبانيّ وسيلفيو بيرلوسكوني الإيطاليّ. لكن الغضب الذي كانت قد أطلقته حرب العراق يشهد، بدوره، تراجعاً كبيراً يتراجع معه العداء، بسبب ولا سبب، للولايات المتّحدة الأميركيّة. وفيما الأخيرة تتهيّأ لمرحلة ما بعد بوش، يجوز الافتراض بأن معارضة كتلك الفرنسيّة – الألمانيّة للحرب قد ولّت، مثلما ولّت حالات نافرة كالغزل الألمانيّ – الروسيّ إبّان مستشاريّة غيرهارد شرودر. فإذا صحّ أن قدراً من الانكفاء سوف يسود أية سياسة أميركيّة مقبلة حيال الشرق الأوسط، صحّ أن حروباً كالحرب العراقيّة ولّت هي الأخرى، وأن احتمالات تقسيم عمل أميركيّ – أوروبيّ يتعاظم فيه دور الطرف الثاني في منطقتنا قد زادت.

فإلى خوسيه مانويل باروسو، رئيس المفوضيّة الأوروبيّة، الحريص على تحالف ضفّتي الأطلسي، يمثّل رئيس فرنسا الجديد نيكولا ساركوزي الخطّ نفسه ممزوجاً بجرعة نضاليّة أكبر. أما غوردون براون، بديل بلير المرجّح، فليس هواه الأميركيّ أقلّ من هوى بلير، إلاّ أنه، وفي مراجعة التفافيّة لأكثر سياسات بلير أميركيّةً، يعد بخطط تمنح البرلمان البريطانيّ مزيداً من الصلاحيّات في ما خصّ قرار الحرب.

وقد يصحّ القول إن بعضاً من تلميحات براون الاجتماعيّة تشي بأمركةٍ لزمن ما بعد بوش، أو بأمركة من دون بوش، وربّما أمركة بجرعة أوروبيّة أعلى. وهو ما نجده، مثلاً، في تركيزه الملحوظ على إنشاء بلدات إيكولوجيّة خمس جديدة تكون «محيّدة بيئيّاً» لا يخالطها الكربون. ومعروفٌ ان المسألة هذه كانت وجه الافتراق الأبرز بين الادارة الأميركيّة وحكومة العمّال الجدد في لندن.

بيد أن المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركيل تبقى البطل الأبرز للتحوّل الذي يشقّ طريقه في «القارّة القديمة». فهي، وكما كتبت «نيوزويك» مؤخّراً، ستكون زعيمة أوروبا المتحالفة مع واشنطن لفترة يصعب التكهّن بمداها. ذاك أن ساركوزي سينشغل حكماً بمواجهاته السياسيّة والاجتماعيّة في الداخل، بينما يعمل براون على توطيد سلطته في حزبه والتمهيد لكسب الانتخابات المقبلة في مواجهة المحافظين ونجمهم ديفيد كاميرون. لكن ميركيل التي أنهت حقبة الغزل الألمانيّ – الروسيّ ولم تتكتّم على عواطفها الأميركيّة، بدأت تتحوّل رمزاً لنجاح اقتصاديّ ملحوظ. والحال ان ثمّة من بدأوا يشيرون الى احتمالات «معجزة» اقتصاديّة ألمانيّة ثانية بعد تلك التي تلت الحرب العالميّة الثانية ومشروع مارشال.

هكذا يغدو في وسع ألمانيا قويّة اقتصاديّاً أن تشكّل القاطرة الأوروبيّة الى قوّة تتحالف، بعُقد أقلّ، مع الولايات المتّحدة، من غير أن تنجرّ الى سياسات تابعة كالتي رمز اليها توني بلير، وطبعاً من دون أن يكون هناك جورج بوش في البيت الأبيض.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)