من المثير جداً معرفة السبب وراء حدوث الإنقلاب في الموقف الإسرائيلي من شن حملة عسكرية على قطاع غزة، وظهور أغلبية داخل الحكومة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية تعارض شن هذه الحملة حالياً. فوزراء حكومة إيهود أولمرت وكذلك قادة الأجهزة الاستخبارية وتحديداً جهاز المخابرات الداخلية " الشاباك " يرون أن إسرائيل سترتكب خطأً كارثياً في حال قامت بشن هذه الحملة في الوقت الذي يقتل فيه الفلسطينيون بعضهم بعضاً. فحسب رئيس جهاز " الشاباك "، يوفال ديسكين، فأن أكبر وأنجح حملة عسكرية يشنها جيش الاحتلال على حركات المقاومة في قطاع غزة، لا يمكنها أن تحقق نتائج أفضل لإسرائيل من نتائج الإقتتال الفلسطيني الداخلي. لذلك، فأن ديسكين ينصح بالإنتظار حتى يستنفذ الفلسطينيون كل جهدهم في الإقتتال الداخلي، وبعد ذلك تدرس إسرائيل إن كان هناك ثمة مسوغ لشن الحملة العسكرية.

ومن المؤسف حقاً أنه في الوقت الذي يراهن فيه أعداء الشعب الفلسطيني على الإقتتال الداخلي، فأن الفلسطينييين يتطوعون لتحقيق هذا الرهان بشكل مرير ومؤلم، كما حدث ويحدث حالياً في الاشتباكات التي دارت بين عناصر حركة " فتح " والاجهزة الأمنية من جهة ونشطاء حركة حماس من جهة أخرى. فللأسف الشديد، فأن هذين الفريقان ينغمسان في هذا الإقتتال المجنون الذي تجاوزت مظاهره حدود كل منطق وعقل، سيما وأن فترة من الهدوء النسبي سادت بين الجانبين في أعقاب التوقيع على اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وقبل الحديث عن المخرج من هذا الوضع البائس، فأنه لا بد من الإشارة الى الأسباب التي قادت إليه:

1- لقد كان السبب الرئيسي وراء قبول حركتي فتح وحماس التوقيع على اتفاق مكة هو حالة الانهاك التي اصيب بها التنظيمان بسبب الإشتباكات المتواصلة والخسائر الكبيرة، وليس نتيجة قناعة راسخة بضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما. فقد كان التنظيمان مستعدين لتقديم " تنازلات " مؤقتة من أجل استعادة العافية وترميم قدراتهما القتالية. والذي يدلل على ذلك، أنه منذ التوقيع على اتفاق مكة حرص التنظيمان على مراكمة أسباب القوة، وتجنيد المقاتلين. فالتوقيع على الاتفاق لم يؤثر على رغبة " فتح " الشديدة بإفشال حركة حماس وتجربتها في الحكم، كما أن الكثيرين من كوادر حركة حماس رأوا في بعض بنود الاتفاق " تنازلات " قدمتها قيادتهم بدون مبرر. ولازال كل تنظيم ينظر للآخر كمن يحمل مشروعاً مناقضاً لمشروعه، ناهيك عن الحسابات التنظيمية والشخصية الضيقة، التي ظلت تتعارض مع اتفاق مكة.

2- لقد كان تفجر مظاهر الإقتتال الداخلي متوقعاً بعد اتفاق مكة، لأن التنظيمين لم يسعيا لإحلال الصلح بين عائلات أبناء التنظيمين الذين قتلوا أو أصيبوا خلال الاشتباكات التي سبقت التوقيع على اتفاق مكة؛ بحيث أن معظم الاشتباكات الدامية بين الفريقين جاءت بسبب عمليات الأخذ بالثأر التي قامت بها عائلات محسوبة على هذا التنظيم ضد عائلات محسوبة على التنظيم الآخر، وبالعكس.

3- عدم وضع حد لتسييس الأجهزة الأمنية؛ فجميع الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية تتعامل وكأنها فصائل عسكرية تابعة لحركة " فتح "، في حين تتعامل القوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية وكأنها تابعة لحركة حماس، الأمر الذي يعقد القدرة على وضع حلول سريعة للإحتكاكات التي تحدث بين التنظيمين. فحركتا حماس وفتح لم تنجحا في تطبيق بند الشراكة واعادة صياغة الأجهزة الأمنية على أسس وطنية مهنية.

4- في نفس الوقت لم يؤدي تشكيل حكومة الوحدة الى حدوث تقارب حقيقي بين حركتي فتح وحماس. فكل من يمعن النظر يدرك بسرعة أنه في الواقع هناك حكومتان بمرجعيتين مختلفتين؛ وهذا ما أثر سلباً على قواعد الحركتين وجعلهما أكثر استعداداً لحل الخلافات بالعنف. ولعل المثال الأوضح على ذلك هو الاستعانة بالمسلحين لحل الخلاف حول وزارة الصحة.

5- ولا يمكن اغفال مساهمة الحصار وتدهور الأوضاع الإقتصادية بشكل كبير وعدم تلقي الموظفين رواتبهم لشهور عديدة، في تغذية الإستعداد لإستخدام العنف في حل المشاكل التنظيمية. صحيح أن هذا العامل له تأثير غير مباشر على الإقتتال الداخلي، لكنه عامل هام جداً وحاسم.

من هنا، فأنه لا يمكن وضع حد قاطع ونهائي للتوتر بين حركتي فتح وحماس قبل التخلص من الأسباب التي تقود إليه كلما سنحت الظروف. وواضح تماماً أنه لا مجال لوضع حد لحالة الاقتتال بين التنظيمين في حال لم يقتنع الجانبان بضرورة الشراكة بينهما في حمل المشروع الوطني، رغم الخلافات والتباينات. ولا مجال للحديث عن صفحة جديدة ما لم يتم احلال الصلح بين جميع العائلات الفلسطينية التي اشترك ابناؤها في الإقتتال الداخلي، وضمن ذلك دفع ديات لكل الذين قتلوا في المواجهات بين الطرفين، ويمكن أن تتولى الدول العربية تمويل هذه العملية. في نفس الوقت، فأنه يتوجب وضع حد نهائي لعملية تسييس الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فبدون ذلك ستصبح الأمور عرضة لمزيد من التعقيد في كل لحظة، ويجب أن تتم معالجة هذه القضية بترو. لكن في اعتقادي أن أهم مشكلة يتوجب السعي لحلها، هي مواصلة الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني. يتوجب على الجميع أن يتأكد أنه قد بذل أقصى قدر من الجهود لرفع الحصار. فالحصار هو مهد الشرور كلها، فقدرة الناس هنا على التحمل تتآكل بشكل واضح، وهذا يشكل أرضية خصبة للعنف. ويتوجب التأكد من البحث في كل البدائل التي تسمح بالتخلص من هذا الحصار