إن كنت ترغب في معرفة أسباب فشلنا في العراق، فما عليك إلا أن تعود لقراءة ذلك المقال الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في صفحتها الأولى يوم السبت الماضي. وقد بدأ المقال المذكور كما يلي: "قبل عامين، علمت روبن سي. آشتون، ممثلة الادعاء المعروفة بوزارة الدفاع، من رئيسها أنه لم يعد ممكناً لها أن تحلم بالترقية التي كانت قد وعدت بها من قبل. وقيل لها فيما قيل، إن لديها "مشكلة مونيكا". والإشارة في هذا الاسم إلى "مونيكا إم. جودلينج" المحامية المبتدئة نوعاً ما، التي التحقت بالوزارة للتو. وقيل لها أيضاً إن "مونيكا" تعتقد أنها "ديمقراطية" وأنه لا سبيل للثقة بها مطلقاً". وقد كان طردت ممثلة الادعاء "أشتون" من منصبها ذاك إلى منصب آخر في وزارة العدل نفسها، بعد أسبوعين لاحقين لذلك التاريخ، تمهيداً مبكراً واستباقياً، لتنفيذ خطة واسعة النطاق فيما بعد، انتهت بتسريح تسعة من ممثلي الادعاء الأميركيين من مناصبهم العام الماضي. وجاء في المقال المذكور أيضاً أن الآنسة "مونيكا جودلينج" يتوقع لها قريباً أن تحاصر المتقدمين الجدد إلى وظائف مدنية بالمقر الرئيسي لوزارة العدل، بجملة من الأسئلة، يعتقد الكثير من ممثلي الادعاء عدم ملاءمتها وينفون أن تكون لها علاقة بالوظائف المتقدمين لها أصلاً. بل سبق لها أن توجهت لبعض هؤلاء بأسئلة من شاكلة: من هو رئيسك المفضل، وما هو رأيك في المحكمة العليا؟ إلى ذلك ذكر بعض مسؤولي وزارة العدل أنها توجهت إلى أحد المتقدمين للوظائف بسؤال حول ما إذا كان قد سبق له أن خان زوجته في أي فترة من فترات حياته؟
وفي المنحى ذاته، عملت الآنسة "مونيكا" على عرقلة الطريق أمام طلبات ممثلي ادعاء جدد، تثور الشكوك حول احتمال كونهم أعضاء من الحزب "الديمقراطي"، على رغم سعي هؤلاء للالتحاق بوظائف، يفترض فيها بحكم طبيعتها ومهنيتها، بُعدها التام عن الحزبية.
وبعد، فما علاقة كل هذا بما يجري لنا في العراق؟ والإجابة المباشرة القاطعة هي: الكثير... والكثير، ذلك أن أحد المعايير الأساسية التي تطالب بها إدارة بوش الحكومة العراقية، التراجع عن برامجها الخاصة بتفكيك حزب "البعث"، أي التطهير الواسع لـ"البعثيين" في أعقاب سقوط نظام صدام حسين، وإبعادهم بلا استثناء من مواقع النفوذ واتخاذ القرار. وقد أفضت هذه السياسات إلى إقصاء الكثير من المسلمين السُّنة، وعرقلة إمكانية التوصل إلى مصالحة وطنية هناك. لكن وفي الوقت الذي تواصل فيه إدارة بوش إلقاء محاضراتها الوعظية على الشيعة العراقيين وحثهم على تقليص برنامجهم الخاص بتفكيك "البعث" في بغداد، ها هي تواصل برنامجها الخاص بـ"تفكيك الحزب الديمقراطي" داخلياً في أروقة وزارة العدل، هنا في واشنطن. وكان سيعترينا الشعور بالفشل نفسه في العراق، فيما لو سمعنا أن المتشددين الشيعة يعكفون على تطهير وزارة العدل العراقية من أية عناصر سُنية مسلمة. غير أن المكافئ المطابق تماماً لهذا الشعور، هو ما تفعله إدارة بوش أو الموالون لها، هنا في وزارة العدل الأميركية بحق ممثلي الادعاء وموظفي الوزارة "الديمقراطيين". فأي قدوة وأي نموذج للسلوك المهني، هذا الذي تقدمه أميركا للعراقيين؟ ثم إن هذه ليست مشكلة خاصة بواشنطن وحدها. فعلى حد ما جاء في تفصيل المؤلف "ريد راجيف شاندراسيكارانا" في كتابه "الحياة الإمبريالية في مدينة الزمرد" في وصفه لإجراءات تعيين الكثير من الأميركيين للعمل في السلطة المؤقتة في بغداد، فقد جاء التعيين في كثير من الحالات، اعتماداً على ولاء المسؤول المعين لإدارة بوش وحزبها "الجمهوري"، أكثر من كونه خبيراً في الشؤون الإسلامية والشرق أوسطية، على حد قوله. وبين ما ذكره المؤلف، أنه وجهت الأسئلة لاثنين من مسؤولي السلطة المؤقتة، عما إذا كانوا قد أدلوا بأصواتهم لصالح الرئيس بوش، وما إذا كانوا قد ساندوا "رو في. ويد"؟ غير أن لهذا الميل لتقديم الولاء الحزبي على الكفاءة المهنية، آثاراً كارثية على نطاق أوسع بكل تأكيد. ومن بين هذه التأثيرات أنها حرمت إدارة بوش من تلقي الدعم الذي احتاجته، ما أن تعثرت الأمور في العراق، ولم تمضِ في الوجهة السهلة المرسومة لها قبيل شن الحرب.
أما السبب الرئيسي وراء كل هذا، فيتمثل في مطالبة كل من الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني للجميع بمراجعة مواقفهما السياسية قبل الدخول إلى الحلبة، ما أن يتصل الأمر بالعراق. وبسبب أهمية النصر الحاسمة هناك، فإن إجراء هذه المراجعة، أضحى قاصراً عليهما فحسب. كلاهما قال إن الحرب على العراق، تعد محوراً رئيسياً للصراع في قرننا الحالي، لكونها حرباً استثنائية وغير عادية، طالما أنها حرب ضد الإرهاب والعلل النفسية التي أطلقت عقاله. بيد أن من المؤسف حقاً، أن كليهما ولغ حتى الأذنين في وحل أقذر الممارسات السياسية ضد الخصوم داخل أميركا نفسها. فكيف لهما أن يقدما القدوة والمثل الأخلاقي للآخرين؟! وفي الحقيقة فقد ظن بوش ونائبه تشيني أن في وسعهما توحيد العراق في ذات الوقت الذي يدقان فيه إسفيناً في الحياة السياسية الأميركية ويشقانها. لكن وكما قال لهما "ليون فايزلتير" المحرر الأدبي لمجلة "نيو ريبيبلكان"، فإن هذا النهج لا يجدي فتيلاً. فلا يمكن للرئيس أن يحكم تارة بنهج وينستون تشرشل الوحدوي، وتارة أخرى بنهج "جروفر نوركويست" الانقسامي في معظم الأحيان. ولعل السؤال الأهم في هذه الازدواجية: من ذا الذي يستطيع أن يطالب جنودنا المحاربين في العراق، بالتضحية بالمزيد من دمائهم وأرواحهم، في خدمة إدارة، تعز عليها التضحية بمثقال ذرة واحدة فحسب من سياساتها؟!

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)