وجدتُ يوماً في مكانٍ جميل يدعى زقاق القذر ، الأرصفة ملأى بهياكل تغني وتميل و كأنها حفلة سمر ، العراة عراة والحفاة جباة والشارع طويل .

أصواتٌ تومئ من بعيد تغريني لأتقدم و أشبع فضولي أنظر إلى الهياكل تتوعد بالوعيد ، فيطير صواب عيوني ، أدرت ظهري دون أن أشعر فانفجر بركان رأسي وبدأت حالة جنوني ، قلت لنفسي :

سأعود من بابه ، لن أدخل بعد أن رأيت العجب ، تذكرت أمي حينها وهي تقول لي _ إن تأخرت اليوم ستحرم دهرا من اللعب _ لكني عندما أدرت ظهري لم أجد شيئا وكأني دون جدٍ أو أب ، كيف سأعود ؟ أين الطريق الذي أتى بي !! لا شئ من بعيد إلا الأفق .

بدأت أركض وأركض والخوف يسبقني ، لن أدخل هذا الشارع ، أنا لست خائفا ، لكني لا أريد أن أتأخر عن أمي ، وأركض وأركض والخوف يسبقني حتى تعبت وسقطت ولم أزل في مقدمة زقاق القذر لم أخطو خطوة واحدة ، واختلط صحوي بالهذر ، أحسست دموعي وهي تتساقط ودمي يغلي بالغضب لكني لم أجد أثراً لها ، أدركت حينها أني في مدينة السحب .

صرت أبكي وأضحك ، سأتأخر اليوم عن البيت _ هذا لا يهمني _ أبكي لأني سأحرم دهراً من اللعب ، لن أختبئ أنا وليلى بعد اليوم في بستان جدها بين العشب ، نستلقي على ظهورنا لنرقب السماء ونحلم بها ، أنا من جهتي كنت أحلم بها لأنها تشبه عيني ليلى ، لم أتجاوز العاشرة لكني أفهم لغة العيون وخاصة ليلى ، عيناها تقول بأني يوماً سأحقق حلمي وأكبر ثم أحقق نفسي وأنتصر.

كنا نختبئ في بستان جدها ، تصوروا رغم أنها لعبة ونعلم مسبقا بأن هناك من سيصلنا في أي لحظة ، لكن من يختبئ دائما ويطأطئ الرأس يموت خوفاً قبل نهاية اللعبة .

أجمل ما في اللعبة هو الخوف ، كان يحرك شيئا ما في داخلي ، يدفعنا أنا وليلى إلى أن نتعانق وكأن الخوف القادم خلق ليعيد الإنسانية إلى أنوثة حواء ورجولة آدم .

أما هنا في زقاق القذر ، أضحك لأني تذكرت ليلى وذاك اليوم الجميل ، وأبكي لأني خائف وليلى ليست بجانبي ، والهياكل تتمايل ، والشارع طويل ، وأمي تنتظرني ، كيف سأعود ؟

تحركت قدماي خطوة باتجاه الشارع ، لاحظت عندها بأن الهياكل ثابتة والوجوه تتغير والألوان باهتة يطغى عليها الأسود المصفر ، وما إن ازددت تقدما حتى بدأت الهياكل تتحرك لتتحرر من الرصيف وسدنته اتسعت عيناي ووصل خوفي ذروته ، لكن للحظة وعاد إلى المضاجع ، فالهياكل كانت عاجزة وكأن جداراً ضخماً يفصل بين الرصيف والشارع .

ابتسامة ساذج ارتسمت على شفتاي ، واقتربت من إحدى الأرصفة ، فبدأت الهياكل تقفز وتغرد ، وتغني وتهتف و أشباه النساء تزغرد ، حتى أن واحداً هناك رفع شيئاً بدأ يقترب ، كانت صورتي ، وأخذ التلويح أشدّه ، وجوههم كانت تتغير وصورتي تبقى كما هي ، أنا لم أعرفهم لكن ابتسامتي تحولت إلى قهقهة ، فصراخهم كان واضحاً وأنا لا أسمعهم .

عاودت التقدم في الشارع بثقة جنونية ، فالهياكل لن تصلني وليس للشارع مداخل شرقية أو جنوبية .

درتُ حول نفسي دورة كاملة ، وضعت يدي في جيبي ومشيت متقدماً ونسيت كيف بدأت ، ونسيت أمي حتى .

مشيت مختالاً حتى وصلت إلى آخر شارع زقاق القذر ولسوء حظ القدر أفقت على صراخ أمي :

قم يا عمران لتحضر الرز من الجمعية

رفعت رأسي لأكتشف بأنني كنت أحلم ، كيف تكون حاله زعيم لإحدى الشوارع العربية

ملاحظة : لأمانة الوثائق التاريخية ، لاحظت عند عبوري زقاق القذر أن الأشياء كلها تتماهى إلا كلباً صغيراً ألوان عوائه كانت جداً طبيعية .