عناصر كثيرة تتجمّع لتجعل من هذا العام عام حسمٍ لصراعات عديدة في العالم، معظمها في منطقة الشرق الأوسط، بأبعادها العربية والإسلامية.

ومن غير شك، فإنّ سفينة أحداث العالم تتّجه حيث يدير دفّتها القبطان الحالي الأميركي الذي كانت بوصلته في السنوات الأخيرة مثبتة باتجاه الشرق، وتحديداً على منطقة الخليج العربي.

لكن هذا القبطان الأميركي، رغم جبروته وقوته، دفع بهذه السفينة إلى التلاطم مع صخور صلبة أصبح من الصعب تجاوزها دون مساعدة كل طاقم السفينة وركابها.

ولعلَّ ما يحدث الآن في العراق وأفغانستان، وفي لبنان وفلسطين والسودان، إضافةً إلى التأزّم في العلاقات مع إيران، أزمات ارتبطت كلّها ولا تزال بالسياسة المهووسة التي قادتها الإدارة الأميركية منذ تسلّمها الحكم في مطلع العام 2001.

وقد أدرك الآن العالم كلّه عدم صحّة التبريرات والأعذار التي أعطتها إدارة بوش لحربها على العراق وبأنّ هذه الحرب كانت مقرّرةً قبل أحداث أيلول/سبتمبر 2001، وقبل بروز ظاهرة الإرهاب باسم جماعاتٍ عربية وإسلامية.

ولم يكن سهلاً على هذه الإدارة الأميركية أن تتراجع عن أجندتها أو أن تعترف بأخطائها، لكنّها تسير الآن وفق نهج الاضطرار وليس الاختيار، خاصّةً في كيفيّة التعامل مع المسألة العراقية وفي الموقف من إيران. فقد قامت إدارة بوش بتجريب كل الخيارات المتاحة أمامها، إلا أنّها فشلت في تغيير الوقائع والظروف لصالح أجندتها. وهاهي الآن في مأزقٍ داخلي أميركي تتعامل فيه مع رأي عام أميركي يرفض بغالبيته ما هي عليه الإدارة من نهجٍ وسياسة، خاصّةً في الشأن العراقي، فضلاً عمّا تواجهه إدارة بوش من ضغطٍ مزدوج من قبل غالبية ديمقراطية في الكونغرس، ومن وسط الحزب الجمهوري نفسه.

وسوف تكون أمام إدارة بوش مسافة زمنية ضيّقة، هي الأشهر الباقية من هذا العام، لتعديل نهج سياستها الخارجية ولمحاولة إعادة تصحيح الخلل الانتخابي الداخلي قبل احتدام معركة انتخابات العام 2008.

وقد تبيّن الآن أنّ ما سعت إليه إدارة بوش من إقامة محورين في الشرق الأوسط: "محور التطرّف" الذي وضعت فيه إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس، مقابل الدعوة لإقامة محور "الاعتدال" ليضمَّ دولاً عربية وإسرائيل وتركيا، قد ثبت عدم إمكان تحقيقه، وانقلب السحر على الساحر، فأصبح هناك محوران داخل الإدارة الأميركية نفسها؛ أحدهما "معتدل" تقوده وزارة الخارجية، والآخر "متطرّف" يقوده في البيت الأبيض تشيني والمستشار إليوت إبراهام.

وهانحن نشهد الآن تصاعداً في التباين بين محور "الاعتدال" ومحور "التطرّف" داخل إدارة بوش، كان من أبرز مظاهره ذاك الموقف من الاتفاق مع كوريا الشمالية، وتلاه آخر من مسألة التفاوض مع إيران وسوريا، ثمّ في كيفيّة التعامل مع الملف الفلسطيني.

أمّا في اللحظة الراهنة، فإنّ "المحورين" يتحرّكان معاً بلا حسم من قبل الرئيس بوش لأيٍّ من الدفّتين في ميزان قراراته. ولعلّه يريد استهلاك كل الخيارات المتاحة قبل نهاية فترة إدارته، إلا أنَّ ذلك لم يعد ممكناً من الناحية العملية. فأمام الرئيس الأميركي أشهر قليلة الآن لحسم إتجاه دفّة السفينة العالقة وسط صخور العراق، والعاجزة عن حسم الصراع عسكرياً فيه، ومع إيران ومع الأطراف الأخرى المصنّفة أميركياً بقوى "التطرّف".

ويبدو أيضاً من سياق التطوّرات الراهنة، أنّ واشنطن سوف تحاول مع إيران حمل غصن الزيتون في يد، والبندقية في اليد الأخرى، من أجل الحصول على مكاسب سياسية تسعى إليها الإدارة الأميركية في العراق أولاً ثمّ في قضايا المنطقة الأخرى الساخنة.

وستكون المفاوضات الأميركية/ الإيرانية القادمة في بغداد مؤشّراً على انخفاض اليد التي ترفع البندقية لصالح تلك التي تحمل غصن الزيتون.

وكما هو الآن أمرٌ مستبعد اللجوء إلى التصعيد الأميركي مع طهران، فإنّ "الصفقة الشاملة" هي أيضاً صعبة إن لم نقل مستحيلة بين واشنطن وطهران.

فنوعيّة القضايا العالقة بين الطرفين لأكثر من ربع قرن، وظروف وطبيعة القيادة الآن في كلٍّ من البلدين، لا تسمح كعناصر معاً في التوصّل إلى "صفقة شاملة"، بل إنّ الممكن المتاح الآن هو التعامل مع القضايا الشائكة بأسلوب "التقسيط" وب"المفرّق" لا "الشراء والبيع بالجملة". فالحذر وانعدام الثقة وتناقض المصالح هي المظلّة التي ستحوم فوق المتفاوضين الأميركيين والإيرانيين، لكن كلا الطرفين يحتاجان الآن إلى "تسوية" وإلى مساعدة الآخر للخروج من عنق زجاجة التأزّم القائم بينهما.

فالأولويّة للإدارة الأميركية هي الأوضاع العراقية التي ما برحت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وواشنطن تجد أنّ طهران قادرة على تسهيل الأمور العراقية المعقّدة أمنياً وسياسياً، ذلك أنّ مشكلة الإدارة الأميركية أنّها أصرّت منذ عامين على الانتخابات العراقية قبل تحقيق وفاق وطني عراقي، فأصبحت حكومة المالكي هي إفراز ديمقراطي عراقي لا تقدر واشنطن على عزله أو تجاهله، لكن هو أيضاً واقع سياسي يحمل سمة الفئوية وعدم التمثيل الشامل للوطن العراقي. وهاهو طرف مهم (تيّار مقتدى الصدر) يتحوّل إلى قوّة تأثير سلبية على حكومة المالكي وعلى وجود الاحتلال العسكري الأميركي للعراق.

فالمأزق الأميركي بالعراق، فيما يتعلّق بحكومة المالكي، هو مزدوج سياسياً، سواء من جهة استمرار الحكومة بما هي عليه من تركيبة ومواقف غير متجاوبة مع مطالب واشنطن الراهنة حول قضايا النفط وقانون "اجتثاث البعث" وتعديل الدستور والمصالحة الوطنية، أو من جهة المأزق الأميركي أيضاً في حال سقوط حكومة المالكي لصالح التيّارات الداعية لجدولة الانسحاب الأميركي والرافضة لمطالب واشنطن.

والإدارة الأميركية تدرك أنّ طهران قادرة على التأثير على هذه التيارات وعلى حكومة المالكي، وبالتالي، فإنّ التفاوض مع إيران يصبح مدخلاً واقعياً لكيفية ضبط مستقبل التطورات في العراق.

إنَّ التفاهم الأميركي (وليس الصفقة) مع إيران سيكون أيضاً مدخلاً مهمّاً لمصير المبادرة العربية حول الصراع العربي/الإسرائيلي وللأزمة السياسية الحادّة في لبنان ولمصير التعامل الدولي والأميركي مع الحكومة الفلسطينية وملف التفاوض مع إسرائيل. فالمشروع الأميركي لشرق أوسطي جديد كان من غزّة إلى طهران، وسقوط هذا المشروع يتطلّب معالجة لكلِّ شريط الأزمات الممتد من فلسطين إلى الخليج.

يبقى التساؤل عن موقع ودور الأطراف العربية في خضمّ هذه الأزمات. والمؤمّل أن تكون قرارات قمّة الرياض الأخيرة هي السقف الذي لا يتجاوزه أيُّ طرف عربي لصالح أيِّ قوّةٍ دولية أو إقليمية.

مصادر
الرأي العام (الكويت)