لا أريد أن يقنعني أحد أو يرسم ابتساماته الغبية من عدسات التصوير، أو حتى يثبت لي قلقه بالكلمات التي ترن تاركة فراغا... لأن مصيبتي أكبر من الرؤية التي يحاول "الرسميون" أو "المعارضون" تكوينها، فالراحلون من مخيم نهر البارد هم بشر من لحم ودم، وأشلاء الجثث المنتشرة في محيط نهر البارد لا تخص الجيش اللبناني أو "فتح الإسلام"، لأنها تعني الجميع، وتعيد رسم زمن الردة على شاكلة البنادق والمدافع من كل العيارات.

إنهم يقفون أمامنا ومن خلفنا ونحن نشاهد المراسلون يتراكضون وسط المعركة التي تندلع فجأة مشيرة إلى أننا قادرون على صنع المعجزات، ثم التوقف لنقدم ألوان الثرثرة في الفضائيات، لكن الملثمين لم يهبطوا من السماء فهم صورتنا الجديدة، او قدرتنا على الحياد عندما تصبح المعركة تمس "الشرف" الذي دافعنا عنه ومنحناه معان مختلفة وربما اهمها اليوم هو "شرف المشاهدة"... أو "شرف تلبد المشاعر"...

لا يمكنني رؤية الصور المتكررة لكن نهر البارد كان يعيد طفولتي المنسية، وأشكال التوقف من دهشة ما يحدث، أو حتى الدموع التي تنهمر بينما أصدقائي يضحكون، فهل أستطيع استعادة بعض من صور الماضي، ام أن نهر البارد يعيد كتابة جزء من التاريخ الذي نهرب منه لكنه يلاحقنا.. يلاحقني أينما ذهبت!!!

في سكرة الرؤية التي تظهر وتغيب فجأة أتذكر أن كل الأزمنة تلتقي عند حدود التصريحات الرسمية، ليصبح الحدث السياسي فوق المجتمع، أو ينتمي لصنف الآلهة، وعندها يتوقف التفكير في أن "القتلى" كانوا يملكون حياة وأحلاما، وأنهم في غمرة العنف ربما قاتلوا أو توقفوا للحظة، لكن النتيجة واحدة فصورهم على جانبي المعركة لا يمكن أن تكون أسيرة الشاشات.

ليس هناك مجرم أو ضحية فيما حدث، لأنني أشاهد الصورة بكاملها وربما أشفق على المساحات السوداء التي تظهر فتجمع المتقاتلين ثم تضعهم في صورة واحدة... إنها معادلة بسيطة بالنسبة لي لأن مسألة "اللاعنف" لا تحتمل التنظير بل تحتاج إلى التفكير قبل مكافحة الإرهاب.. إلى رؤية "الكآبة" التي تلف الحياة عندما ينتهي الأمل بين جدران أسمنية، ثم إلى الدخول في التشويق الذي يجعلنا نتحد في طقس جنس أو متعة للعيش مع "الآخر"... لكن "الإرهاب" ربما يظهر في كل لحظة فنطلق النار عليه فنعيد "الظاهرة" إلى بدايتها...

ربما من يأس أو غضب ينطلق الصوت الأول للقتال، لكنه في عمق الحياة لا يحتمل "مكافحة" على طريقة "النبذ" بل الفهم... المعرفة التي يمكن أن تجعلنا جزء من المجتمع بدلا من ان تخلق "طابقا" للساسة وآخر "لباقي فئات الشعب"... ففي السياسة القديمة هناك مساحة منسية على السياسيين دخولها حتى يتعلموا أن المجتمع هو مجرد أشخاص آخرين يمكن أن يعاقبوا بشدة، لأنهم "إرهابيون" أحيانا و "لطفاء" إذا استمروا في نمطية حياتهم... لكن عندما تبدء المعارك ينتفي التمييز لأن العنف يحصد الطرفين والمنتصر يحمل أساه وقتلاه وينتظر جولة جديدة... وأسأل من جديد من يستطيع اقناعي بأنه قلق مما يحدث؟! من يستطيع اقناعي أن البشر يصبحون بـ"الصدفة" إرهابيون!!