أعجبني هذا المصطلح _ الشعار : إعادة توجيه البوصلة، والذي رفع في احتفال أقامته عائلة ( السهلي) المشهورة بعدد من الكتّاب،والباحثين،والمناضلين،والشهداء و..بأنها من (بلد الشيخ) الملاصقة لحيفا،والتي ارتبط اسمها بشيخ ثوّار فلسطين المجاهد العربي السوري:الشيخ عّز الدين القسّام،وبوقائع بارزة في محطّات الثورات الفلسطينيّة.
البوصلة تؤشّر بالاتجاه الخطأ،والبحّارة دائخون، والمسافرون ملّوا العبث، زهقت أرواحهم من التفاهة، والسفالة، وقلّة حياء من استولوا على ( الدفّة )،ونصّبوا أنفسهم ملاّحين وهم جهلة يحسبون رحلة إبحار الشعب الفلسطيني مجرّد نزهة بحريّة للصيّد والاستمتاع ، وأن السفينة بلا هدف ولا عنوان ...
السفينة تائهة في البحر،وما يحدث عليها ليس ( ثورة) على السفينة ( بونتي)،ولكنه (زعرنة) مارقين وجهلة، يدفعهم جشعهم وطموحهم الأرعن لاقتراف أي فعل قبيح للهيمنة على غرفة القيادة،والتحكّم بوجهة السفينة،ومصير الشعب المسافر العنيد وأخذه إلى المجهول.
أسرة ( السهلي) ومركز القدس الخيري الثقافي أقاما معاً احتفالاً حاشداً في المركز الثقافي بمخيّم اليرموك، في الذكرى التاسعة والخمسين للنكبة الأولى عام 48، ليس للبكاء والعويل،ولكن لإعلان أن حّق العودة هو حّق لكّل فرد فلسطيني، يثوارثه الأبناء عن الآباء،لا يزول،ولا يتغيّر،ولا يمكن أن ينتقص أو يعوّض عنه لا بأرض ولا بمال الدنيا كلّها.
في المهرجان الذي حشدت له عائلة السهلي أكثر مّما تحشد الفصائل الفلسطينيّة _ في السنتين الأخيرتين،وهذا دليل على اهتزاز علاقة الجماهير بها_ لم ترسل الدعوات للأمناء العامين للتنظيمات وبقصد،حتى لا يتصدّروا الاحتفال، ويتجعّصوا في الصّف الأوّل،هم الذين اعتادوا التسابق على كراسي منها يستمدّون قيمتهم واعتبارهم ومكانتهم .
غصّت القاعة الكبيرة بالنساء العجائز المتكئات على أذرع أحفادهن، والأمهات وهنّ يحملن طفلاتهن وأطفالهن، والرجال المتقدمين في العمر والذين منحوا الكراسي المتقدّمة تقديراً لذاكرتهم وتاريخهم وجهادهم وجهودهم ، وبجيل فتي من الشباب المتوثّب.
أمّا أنا وأمثالي فقد أصررنا على أن نجلس في الصفوف الخلفيّة رغم الإلحاح ، وأنا منذ أيام بيروت كنت أحرص على الجلوس في الصّف الأخير، وكان هذا التصرّف يسهّل علي المغادرة عندما أمّل من استطراد خطيب سمج ،وتشبّثه بالميكروفون لساعتين ،وأحياناً لثلاث ساعات وأكثر ، فبعضهم كان يظّن أن ( عظمة) كاسترو ناجمة عن طول خطاباته ، وليس لعلو قامته النضالية ،وسيرته، والتجارب الميدانيّة الدامية التي خاضها، ناهيك عن ثقافته في السياسة ، والأدب ، والاقتصاد الذي هو اختصاصه . (بعض القادة الفلسطينيين لا يقرأون الجريدة ، وينفرون من الكتب ، ويكتفون بسماع التقارير الشفوية إمعاناً في كراهية القراءة_ عن رفاقهم ، وإخوانهم ، وزملائهم !..فشعار واحدهم : ما أنا بقارئ ..لماذا يضيعون أوقاتهم الثمينة ؟!) .
هذا المهرجان الاحتفالي الذي أطلق العهد ورفع الصوت بالقسم على التشبّث بحّق العودة فرديّاً وعائليّاً، هو حدث فريد من نوعه ، وهو إشارة لمرحلة جديدة تبدأ...
هو تحرّك جماهيري بدون وصاية الفصائل، فقد ملّت الجماهير الفلسطينيّة،وهي تريد أن تمسك بمصيرها بيدها. إنها ترسل إنذاراً كبيراً لكّل من يعنيهم الأمر:عرباً رسميين منحازين للمشروع الأمريكي، إدارة أمريكية متصهينة معادية لشعب فلسطين ولتطلعات وأمنيات الجماهير العربيّة،كيان صهيوني عنصري : شعب فلسطين لن تدوّخه اضطرابات مفتعلة للسفينة، ولن تستولي على قيادته (أدوات) بائسة منتفعة يتّم تبنيها والدفع بها إلى الواجهة لتأخذ ( دوراً ) ليس لها،بالعربدة، وافتعال الاقتتال ، والانحراف عن وجهة بوصلة فلسطين ...
محمود السهلي السبعيني الذي عاش نكبة ال48 خاطب الحضور ببساطة،من القلب للقلوب، روى بعض فصول المأساة، حمّل أعداء الشعب الفلسطيني ، والمتآمرين عليه ..مسؤوليّة ضياع وطنه،وتشريده، ومع الحضور أقسم على العودة أحياءً أو موتى، ولو رماد الأجساد وبقاياها ، لتدفن هناك بجوار حيفا في ( بلد الشيخ) .
ولأن الاحتفال لم يكن عشائريّاً ، ولكنه دعوة لاستعادة( البوصلة) وضبطها باتجاه حيفا، فقد وضّح الكاتب ناصر السهلي المقيم في ( الدنمارك) بأن هذا الاحتفال ليس عودة عشائرية إلى الخلف ، ولكنه خطوة للأمام ، فهو تذكير بأن أي جهة في العالم لا تملك حّق التنازل عن حّق عودة الفلسطيني إلى أرض وطنه .
الطفلة الصغيرة،الطفلة التي بحجم الإصبع، صعدت إلى خشبة المسرح،لابسةً الزّي الفدائي، لافةً عنقها الصغير بكوفيّة فلسطينيّة . وقفت باستعداد،وتأمّلت الجمهور ، ثمّ انطلقت في تلاوة شعر يتغنّى بالبطولات الفلسطينيّة :
منعوا الكلمة منعوا البسمة
منعوا عنّا حتى النسمة
تلك البنت الصغيرة ، الواثقة من نفسها ،هجت أعداء الشعب الفلسطيني الذين يحاصرونه،ويطاردونه، ويسرقون منه البسمة والنسمة : منى عثمان عبد العزيز..استحقّت التصفيق ،والدموع ،فهي جيل بالكاد يدرج على الأرض ولكنه يتلقّن سّر الارتباط بفلسطين:وعياً وحبّاً وعناداً ...
في غزّة ( التنظيم) تماهى بالعشيرة ، صارت العشيرة هي التنظيم والتنظيم عشيرة، وهذه جناية ( الفردية) التي تحكّمت ولم تبن تنظيماً وإنما شبكة مصالح ، والعصبويّة التي استشرت في الفصائل صغيرها وكبيرها ...
هذه فضيحة المشاريع التنظيميّة البائسة الوعي،التي لجأت في زمن (سلطة أوسلو) إلى التسابق على الوظائف،والاستيراد والتصدير،والنهب السافر،و( تفريغ) الألوف في ( الأجهزة) واستزلامهم،وتوظيف ولائهم للطموحات الشخصيّة...
العشيرة في غزّة تختطف الصحفي البريطاني، وفصيلا حكومة الوحدة ( الوطنيّة) يقفان عاجزين عن ( تحريره) ..ترى كيف سيحرران فلسطين في زمن مليشيات العشائر، والأحياء التي تغلقها وتهيمن عليها ؟! حتى في مقاديشو ما عاد هذا يحدث، فالعشيرة هناك صارت مقاومة وطنيّة،بينما عندنا انمسخت الفصائل وصارت عشائر !.
عائلة السهلي تجمع الناس في مخيم اليرموك لتتعهد أمامهم على أن أحداً منها لن يتنازل عن حّق العودة، وتطالبهم جميعاً أن يصونوا العهد ...
نعم : يمكن أن تكون العائلة لبنة اجتماعيّة تعلي البنيان إذا ما تسلّحت بالوعي ، عندما لا تكون معزولة عن الوعي الوطني والاجتماعي والانتماء والشعور بالمسؤوليّة...
من بيروت عدت إلى دمشق ، بعد أن شاركت في ( مؤتمر حّق العودة) الذي بحث في نقطتين : حّق العودة ، و..إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينيّة،والذي نجح رغم الحملة التي شنّها الجهلاء الخائفون من أي تحرّك شعبي فلسطيني،والذين هم سبب بلاء الشعب الفلسطيني ، وإضاعة بوصلة الإبحار إلى فلسطين، وتتويه السفينة الفلسطينيّة في صراعات تافهة .
وإلى برشلونة في إسبانيا لم أتمكن من السفر رغم أنني تلقيت دعوة لحضور المؤتمر التأسيسي للجاليات الفلسطينيّة بتاريخ 25 الجاري ، تحت شعار : الصمود والعودة ، نعم للشرعيّة الدوليّة، نعم للسلام العادل والشامل ، لا للإملاءات والمفاوضات الاستسلاميّة ...
قبل أيام عقد مؤتمر العودة في روتردام بهولندا، وضم مئات المشاركين الفلسطينيين ...
وهكذا فالنشاط الشعبي والجماهيري ، في الوطن والشتات ناشط ومطمئن ، وهو البرهان على يقظة الشعب الفلسطيني ...
في هذا النشاط يلعب مفكرون ، باحثون، صحفيون، كتّاب ..فلسطينيون دوراً بارزاً،في حين يواصل منتفعو الأنجزة سمسرتهم ، وتنظيراتهم للحوار مع ( الآخر) !
كل هذه النشاطات تعيد توجيه البوصلة لتهتدي السفينة التي يضيّعها الاقتتال الداخلي والصراع على السلطة البائسة ، ولهذا يتحرّك شعب فلسطين ليعيد تصويب الاتجاه ببوصلته التي لم تخطئ يوماً، آخذاً مصيره بيده ...
* القدس العربي ، الأربعاء، 23 أيّار2007