سبعة أعوام مضت على تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي الذي استمرَّ من العام 1978 إلى مايو العام 2000. وها نحن أيضاً عشيّة الذكرى الأربعين لاحتلال إسرائيل للأراضي العربية في يونيو العام 1967، وما زالت طبيعة الاحتلال الإسرائيلي على حالها باختلاف الأزمنة والأمكنة.

فإسرائيل لم تفرّق في أطماعها وممارساتها الوحشية بين الأراضي العربية أو بين سكانها المدنيين، وأساليبها العدوانية كلها من قتلٍ وتهجيرٍ وتدمير عاشها من خضع وما زال يخضع للاحتلال الإسرائيلي بغضّ النظر عن انتمائه الوطني أو الديني أو الطائفي.

لم يفرّق الاحتلال الإسرائيلي في عدوانيته بين مصري وسوري وفلسطيني ولبناني وأردني، ولم يميّز بين مسيحي ومسلم، أو بين سنّي وشيعي ودرزي. فالكلُّ بنظر الاحتلال الإسرائيلي هم أعداء عرب توحّدهم الهُويّة العربية والأرض العربية.

التفريق والتمييز يحدثان على الطرف الآخر، الطرف العربي الممزّق عسكرياً وسياسياً وجغرافياً، والمستهدَف أيضاً بالتمزيق الوطني والديني والطائفي والإثني. وكلّما تعامل العرب مع الاحتلال الإسرائيلي بأسلوب التوحّد الوطني والتضامن العربي، ربحوا معركة،

والعكس يحصل حينما تسود الفرقة والانقسامات أيّة جبهة عربية. فرغم مرارة الهزيمة الكبرى عام 1967، رفض الشعب العربي تلك الهزيمة، وتجلّى ذلك بأروع صورة حينما خرجت جحافل الناس يومي 9 و10 يونيو في معظم الشوارع العربية تطالب جمال عبد الناصر بالعودة عن الاستقالة

وبالاستعداد لحرب التحرير. فكانت وحدة الشارع العربي هي الدافع لوحدة الموقف الرسمي العربي الذي ظهر أيضاً بصورة جليّة في قمّة الخرطوم 1967 التي أكّدت على ضرورة إزالة آثار العدوان، وعلى التضامن العربي في مواجهة إسرائيل، وإسقاط كل الصراعات العربية الأخرى.

وقد حدث ذلك فعلاً، وشهدت المنطقة العربية بين نوفمبر 1967 (قمّة الخرطوم) وأكتوبر (حرب أكتوبر) أفضل درجات التنسيق العربي، والدعم الكامل للخطة التي وضعها جمال عبد الناصر والقيادة العسكرية المصرية بالتنسيق مع دمشق، لاستعادة الأراضي التي احتلّت عام 1967.

وكذلك كانت حرب الاستنزاف لمدة عامين على الجبهة المصرية ميدان اختبار يومي للاستعدادات العسكرية المصرية لمعركة عبور قناة السويس والتي جرت بعد وفاة ناصر. كان درس هزيمة عام 1967 بالنسبة لمصر/عبد الناصر أنّ «ما أُخِذَ بالقوّة لا يستردّ بغير القوّة»،

وبأنّ «العمل الدبلوماسي ليس بديلاً عن الاستعداد للقتال»، وبأنّ «كل الصراعات العربية الجانبية يجب أن تتوقّف لصالح جهود المعركة مع إسرائيل»، وبأنّ «مصر لا يمكن أن تقبل السلام عن طريق العزلة أو التخلّي عن واجبها القومي في تحرير الأراضي العربية الأخرى».

لكن هذه الدروس من هزيمة 1967 لم تعمّر طويلاً، فقد انهار معظمها بعد قرار أنور السادات بالصلح المنفرد مع إسرائيل وتوقيع معاهدات كامب دافيد. ويخطئ من يعتقد أنّ قرار السادات بالصلح المنفرد مع إسرائيل هو الذي أعاد سيناء (بشروط عسكرية) إلى مصر،

فاستعادة سيناء كان حصيلة حرب عام 1973 وما ظهر فيها من بطولة تاريخية للجيش المصري ونجاح استراتيجي في عبور قناة السويس، إضافةً إلى التنسيق مع الجبهة السورية، والتضامن العربي الكبير الذي حصل، خاصّةً لجهة قرار دول الخليج العربي بوقف تصدير النفط واستخدامه كسلاح في المعركة ضدّ إسرائيل وحلفائها الدوليين.

كان ذلك أيضاً، درس تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، فقرار مجلس الأمن رقم 425 صدر في العام 1978 بعد الغزو الإسرائيلي الأول للبنان، وعوضاً عن تنفيذ إسرائيل له، قامت بغزوٍ آخر في يونيو 1982 وصلت فيه قوات الاحتلال إلى العاصمة بيروت وعمق الجبل اللبناني وأشعلت المذابح الطائفية فيه وافتعلت مجازر صبرا وشاتيلا.

ولم يُنفَّذ القرار 425 إلا حصيلة بطولات وصمود المقاومة اللبنانية التي وقف إلى جانبها الشعب اللبناني والجيش اللبناني، فكان انتصار المقاومة تعبيراً عن تضامنٍ لبناني شامل، وعن تكاملٍ مهم بين عوامل حُسن التنظيم والقيادة والأسلوب، وتوفّر الإمكانات، وإيجابية الظروف المحيطة على قاعدة تأييد شعبي وطني شامل.

فكان انتصار المقاومة الوطنية الإسلامية اللبنانية، انتصاراً لكلِّ لبنان ولنهجٍ سليم في مقاومة الاحتلال، وانعكس أيضاً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فأدّت مقاومة الاحتلال في غزّة إلى اضطرار قوات الاحتلال للانسحاب منها.

إذن، بعد أربعين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي ومن حرب عام 1967، تتأكّد الحاجة العربية إلى يد «تحمل البندقية» إضافةً إلى اليد التي تحمل «غصن الزيتون»، وإلى ضرورة عدم التخلّي عن نهج «المقاومة» طالما هناك أرض محتلة في الوطن،

وإلى أهمية التضامن العربي خلف رؤية استراتيجية تجمع بين المبادرات السلمية وبين الاستعداد للحرب، تماماً كما حصل في العام 1967 حينما امتزجت قرارات قمّة الخرطوم مع القبول العربي بقرار مجلس الأمن رقم 242.

للأسف، فإنّ واقع الحال العربي اليوم لا يتوافق مع هذه الخلاصات التي أفرزتها تجارب الأربعين سنة الماضية، سلماً وحرباً، بل هناك سعي دولي محموم لوصم المقاومة، أية مقاومة للاحتلال، بالإرهاب وللمزج بين ما هو مرفوض وطنياً وعربياً ودينياً من أعمال إرهابية تحدث في أكثر من مكان، وبين حق المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال.

هناك سعي دولي وتجاوب عربي أحياناً، لتحويل الجهد من أجل السلام العادل إلى استسلام وقبول بالشروط الإسرائيلية في أي تسوية بحيث تأخذ إسرائيل الاعتراف والأمن والسلام والتطبيع مقابل الاعتراف بشرعية أنظمة ومنظمات! تحوير «المقاومة» إلى «إرهاب»،

وتحويل «السلام» إلى «استسلام»، هي مضامين كل المشاريع الإسرائيلية الأخيرة المدعومة من إدارة بوش. بينما تتواصل على الجبهة العربية صراعات عربية/عربية وحروب أهلية تستنزف الأوطان والمقاومين، وتدفع الشعوب إلى اليأس أو الانغماس في حروب الداخل والسكوت عن احتلال الخارج!

أهي مصادفة أن تكون الأطراف العربية المعنيَّة بمقاومة الاحتلال، هي نفسها المنغمسة في حروبٍ أهلية أو المهدَّدَة بها؟! المسألة ليست فقط «مؤامرات خارجية». هي أيضاً «أمراض داخلية»، لكن المريض هنا لا يُرفَع عنه الحرج !!.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)