من شبكة "غلاديو" إلى عمليات الخطف السرية التي تنفذها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. من «استراتيجية التوتر» إلى «الحرب ضد الإرهاب». تكفي قراءة تاريخية سريعة وبسيطة للاقتناع باستمرارية هاتين العمليتين إن لم يكن بتوافقهما، لن يكون هذا إلا بالنسبة للممول ومنطقة التنفيذ. وتنطرح مسألة "إحياء" شبكة Stay-behind في أوروبا الغربية.

أسست هذه الشبكة بعد الحرب العالمية الثانية، (وتعني أدبيا : الرجال المتروكين على الأرض وراء خط المواجهة) ووجب عليها مسبقا تشكيل شبكة مقاومة في حال الغزو السوفييتي لأوروبا الغربية. نتجت هذه الشبكة بطريقة غير مباشرة عن اتفاقاتYalta وPostdam، وكانت تديرها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والمخابرات البريطانية M16 لإحلالها في كل أوروبا الغربية (أي في منطقة نفوذ الأنغلو – سكسونية). وسرعان ما أدمجت في حلف الناتو.

في تلك الأثناء، سارعت في تجاوز مهمتها الأصلية لدحض أي نفوذ شيوعي في الديمقراطيات الغربية. وتخصصت حينئذ في تزوير الانتخابات والاغتيال السياسي والاعتداءات. وحدث ذلك بشكل خاص في إيطاليا، حيث طبع اثنان من هذه التجاوزات بشكل خاص في الأذهان : اغتيال رئيس الوزراء "آلدو مورو" في أيار 1978، والهجوم على محطة بولونيا في أيار 1980 ، ونسبت العمليتين لمنظمة "الألوية الحمراء". ولم تتوقف أعمال الشبكة عند الحدود الإيطالية، بل توسعت لتشمل جميع الدول الأعضاء في حلف الناتو، ومن ضمنها فرنسا (باستثناء الولايات المتحدة ، وكندا ، والمملكة المتحدة بالطبع) . وتوجد في كثير من الأحيان في جهل حكومات الدول التي تعمل فيها.

انفضت الشبكة رسميا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ، ولم يصرح عن وجودها تحت اسم "غلاديو" إلا في عام 1990 من قبل رئيس الوزراء الإيطالي "جوليو أندروتي" ولكنها تواصل اليوم نشاطها وتوسعه تدريجيا في دول جديدة بقدر توسع الناتو.
وفي حال قامت بعض البلدان، مثل بلجيكا وإيطاليا بتحريات، حتى من أجل الغلاديو ، فهي تفرض رقابة برلمانية لتجنب انتشار هذا النوع من الحالات فجأة، وإن غالبية الدول الأوروبية يهملون هذا الإفشاء بصمت. دون اتخاذ تدابير مهمة لمكافحة هذه المنظمة الإجرامية. واستمروا في حالة السبات نفسها أثناء الإعلان عن اكتشاف سجون سرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في نهاية عام 2005.

هل تحولت "استراتيجية التوتر" إلى "حرب ضد الإرهاب"؟ هذه على أية حال وجهة النظر التي يدافع عنها المؤرخ السويسري "دانييل غانزر" صاحب كتاب "جيوش الناتو السرية" والذي تقصى عبر كل أنحاء أوروبا بغية اكتشاف خيوط الغلاديو وتشكيل هذا العمل الفريد بصدد هذا الموضوع. وتمثل "الحرب ضد الإرهاب" لهذا المختص اليوم وسيلة مشابهة للتلاعب بالشعوب الغربية، وذلك لأنها تشير إلى مسؤولين مزورين جدد عن الأعمال الإرهابية –المسلمون–، ليس لمواجهة "التهديد السوفييتي" ، ولكن لتبرير حروب الموارد للولايات المتحدة.

وجاء الكولونيل السابق في قوات الولايات المتحدة البرية "اوزفالد لوينتير"، الذي شغل خلال أكثر من عقد من الزمن منصب الرجل الثاني في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في أوروبا والرئيس السابق للمجلس السري للناتو، ليرسخ وجهة النظر هذه. مؤكدا أن عملاء في المصلحة التي كان يرأسها نجحوا في التسلل داخل مجموعات من اليسار المتطرف كجماعة "الألوية الحمراء" في إيطاليا أو تنظيم "العمل المباشر" في فرنسا؛ وأنه جند في الوقت ذاته مرتزقة معارضين للشيوعية من اليمين المتطرف؛ وأخيرا، أنه نظم هجمات مختلفة نفذتها جماعات اليمين المتطرف، ونسبت إلى جماعة أقصى اليسار، بل وتبنتها. كما صرح أن حلف الناتو أصدر أمرا باغتيال الجنرال الفرنسي "رينيه اودران"، مدير الشؤون الدولية في وزارة الدفاع (أي المسؤول عن صادرات الأسلحة)، بعد أن اكتشف أنه كان مصدرا للمعلومات المنتشرة قبل بضع سنوات عبر الصحافي الإيطالي "مينو بيكوريللي". ونسب الاغتيال إلى تنظيم "العمل المباشر" الفرنسي، وصدر حكم بالسجن المؤبد على خمسة من أعضائه.

وأكد الكولونيل "لوينتير"، مقدما براهين تلو براهين، أنه ساهم، داخل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وإلى جانب المخابرات البريطانية الـ"إم آي سكس"،في إنشاء تنظيم القاعدة على نموذج "غلاديو". كما نجح ورفاقه في التسلل داخل عدد من الجماعات إسلامية؛ وتجنيد مرتزقة في أوساط إسلامية أخرى؛ فكانت العمليات التي تمولها الأجهزة السرية الأنجلو سكسونية تنسب للتنظيم الأول بينما يكون التنظيم الثاني هو من نفذها. غير أنه، وخلافا للمجموعات الأوروبية في سنوات السبعينات والثمانينات، فإن جميع الجماعات ذات الواجهة الإسلامية تم جمعها تحت إسم واحد هو القاعدة. وصرح الكولونيل "لوينتير" أن آخر اتصال بينه وبين "أسامة بن لادن" جرى في العام 2003؛ وهي حادثة ذاع صداها في الصحافة البرتغالية حينها.

كما شارك في هذا الاجتماع، من واشنطن وبنظام التواصل الثنائي، المؤرخ الأميركي "ويبستر تاربلي"، ساردا تفاصيل عملية اغتيال رئيس الوزراء الإيطالي "ألدو مورو"، التي إقترفتها جماعة "الألوية الحمراء"، بتمويل من الناتو وبدون علمها، وبرعاية مباشرة من "هنري كسنجر". وكان السيد "تاربلي"، الذي كان يقطن روما آنذاك، أول من رفع الغطاء عن تفاصيل المؤامرة الأطلسية الرامية إلى الحلول دون تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الشيوعيين. ولاحظ أن التحقيقات التي تلت ذلك عززت أقواله، باستثناء ما تعلق منها بتحديد موقع شركة سرية ربطها خطأ بتنظيم "مالطا" بينما كانت تتموقع في الشرق الكبير لإيطاليا (المحفل الماسوني الشهير Propaganda Due المعروف باسم "P2"، والذي اكتشف منذ ذلك الوقت).

من جانب آخر، لخصت "روميانا أوغارتشينسكا" أهم النقاط التي جاءت في التحقيق الذي تقوم به منذ أكثر من عشر سنوات حول محاولة اغتيال جون بول الثاني. إن مقارنة العناصر المتوفرة تسمح بإبطال "الفرضية البلغارية" الشهيرة، بشكل قطعي ونهائي. وهي النظرية القائلة بأن الهجوم تم تمويله من قبل الاتحاد السوفياتي ونفذه تركي يعمل لصالح الأجهزة البلغارية. كما قدمت إثباتات توضح أن "علي أغسا" كان الرجل الثالث في شبكة "ستاي بيهايند" العاملة في تركيا، وأنه استفاد من مشاركته في عدة مؤامرات كانت أوروبا الغربية مسرحا لها. ويذكر أن صراعا قويا جمع الولايات المتحدة بالفاتيكان "سانت سييج"، المشغول بالحيلولة دون تحول أوروبا الوسطى إلى حقل معركة بين القوتين العظميين، فيما يتعلق بالسياسة العظمى للكاردينال "أغوستينو كاسارولي".

وبرأي عضو البرلمان الأوروبي، الفيلسوف والصحافي الإيطالي"غيولييتو كييزا"، فإن الوضع اليوم أخطر بكثير مما كان عليه خلال الحرب الباردة. في الواقع، إذا كانت عناصر شبكة "ستاي بيهايند"، وفي سياق المواجهة الإيديولوجية بين الأنجلوسكسونيين واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، تبرر انتهاكها القواعد الديمقراطية لحماية الديمقراطيات، فمبررها الوحيد اليوم هو خدمة مصالح الأنجلو سكسونيين على حساب حلفائهم.

في 5 تشرين الأول 2001، أي بعد مرور أقل من شهر على اعتداءات نيويورك وواشنطن، أعلمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المجلس الأطلسي بإعادة تنشيط الشبكة المرة هذه ضد "العدو الإرهابي". وطالبتا بتضافر جهود الدول الأعضاء بموجب مبدأ المساندة المتبادلة المنصوص عليها في المادة 5 من ميثاق منظمة حلف شمال الأطلسي في حال المساس بأي عضو من أعضائها. قبل أن تتفاوضا مع الاتحاد الأوروبي للحصول على التسهيلات التي تحتاجانها في أنشطتهما. وفي النهاية أجرتا مفاوضات ثنائية الجانب حول إصلاحات تشريعية تسمح لعملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ولأجهزة المخابرات البريطانية بالعمل سرا في جميع الدول الأعضاء. والحال أن منظمة حلف شمال الأطلسي لم تعد تحالفا عسكريا بين دول متساوية الوزن، لكنها لاتتعدى تكون مرتأ لتنفيذ قرارات واشنطن. وهكذا استطاعت الولايات المتحدة مؤخرا أن تتفاوض مع بولندا وجمهورية التشيك حول تركيب نظامها الصاروخي الجديد دون إعلام المجلس الأطلسي، الذي لم يناقش الأمر إلا بعد وقوعه.

كما أكدت هيئة التحقيق التابعة للبرلمان الأوروبي، والتي يشارك فيها "غيولييتو شييزا" بفاعلية، ما جاء في تقرير "ديك مارتي" في المجلس الأوروبي. وأوضحت بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خطفت وحبست وعذبت عددا من المسلمين في أوروبا خلال السنوات الخمس الأخيرة.
فيما أشار النائب البولوني "ماتيوس بيسكورسكي" إلى أن التحقيقات السريعة في بلاده لم تسمح بوضع اليد على معلومات كافية فيما يتعلق بسجون وكالة الاستخبارات الأمريكية السرية على الأراضي البولندية. ومع ذلك، فإن حق أن تلك السجون وجدت فعلا، فلا ريب أنها كانت في ظل فترة رئاسة "الكسندر كواسنيفسكي"، وأنها إختفت بالتأكيد مع أخد الرئيس "ليك كاكزينسكي" لزمام الحكم، وإن عظم ولاءه للولايات المتحدة..

ختاما، أشار "تييري ميسان"، رئيس "شبكة فولتير"، والذي نشط جلسة العمل هذه، إلى أن تصرفات أجهزة مخابرات الناتو تستهزئ بمبادئ السيادة الوطنية. وحذر مرة أخرى من تطور إمبريالية الولايات المتحدة مؤكدا أن أنمطة تدخلها هي التحدي الأول الذي يجب على الديمقراطيات الغربية مواجهته اليوم. لاسيما وأن الاختيار المقصود للضحايا –جميعهم مسلمين– كان يرمي إلى زرع نزعة "صدام الحضارات" في أوروبا. و أخيرا، ذكر، عشية الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، بأن الاتفاقات عبر الأطلسية التي تخول استخدام المطارات الوطنية من قبل الطائرات-السجون التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانت قد عقدت سرا مع "نيكولا ساركوزي"، وأن الأخير لم يتحدث عنها قط. ولكن من دواعي سروره أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ترددت بالتعامل به خوفا على عملياتها من التخريب من قبل ضباط جمهوريين في الجيش الفرنسي.

ترجمته خصيصا لشبكة فولتير: روعه الرقوقي
جميع الحقوق محفوظة 2007 ©