منذ خروج الجيش السوري من لبنان، وانتصار «ثورة الأرز» اتجهت الأنظار الى إعادة ترتيب الأوراق (القوى) السياسية بقيادة وليد جنبلاط وسعد الدين الحريري: الأول يستخدم تاريخ «الحركة الوطنية» ومقاومتها المشروع الاسرائيلي في لبنان وتحالفها مع منظمة التحرير الفلسطينية، بامتداداتها العربية والإسلامية. والثاني يستخدم امكاناته.

والطرفان، على رغم «علمانية جنبلاط»، و «اعتدال الحريري»، لا يترددان في استخدام نفوذهما في طائفتيهما لردع «العدو الفارسي المتحالف والمتآمر» مع النظام السوري ضد الإسلام السياسي في لبنان.

في التحضير للمعركة كان لا بد للزعيمين من العودة الى أصول اللعبة الطائفية، فاستغلا شعور المسيحيين بالغبن طوال الحقبة السورية، وضعف موقع رئاسة الجمهورية المهمش، لتحالف اميل لحود مع دمشق وليس للمخالفة الدستورية في التجديد له لولاية ثانية، ليشكلا تحالفاً ثلاثياً. لكن الزعامة المارونية بشخص ميشال عون خانتهما، بعدما عقد تحالفاً مع «حزب الله»، فكان لا بد من سمير جعجع، بعد استصدار عفو عنه وإطلاقه من السجن.

التحضير لضم جعجع الى التحالف يتطلب إقناع قاعدة شعبية، كانت حتى الأمس تنظر إليه رمزاً للحرب الأهلية وللمشروع التقسيمي في لبنان، ولا سبيل الى ذلك إلا بالعودة الى الحشد الطائفي، وتقديم خدمات (على الطريقة اللبنانية) لهذه القاعدة، الأصولية في معظمها. وهكذا أصبح الشيعة كلهم «حزب الله»، استأثروا بالمقاومة في الجنوب، بعد طرد الأحزاب ومسلحي الطوائف الأخرى، وهم في نظر البنلادنيين يحولون دون السنة وتحرير فلسطين، ويمنعونهم من «الجهاد».

ولإرضاء هذه القاعدة الشعبية عقدت صفقة معيبة بحق القضاء اللبناني والبرلمان: أطلق معتقلو مسلحي الضنية، الذين خاضوا من موقعهم الإسلامي الأصولي اشتباكات مع الجيش اللبناني، مقابل اطلاق جعجع الذي صار حليفاً وثيقاً، ومدافعاً شرساً عن الإسلام السياسي الذي ضمن له موقعه كأصولي ماروني في النظام.

هذا كان قبل العدوان الاسرائيلي في تموز (يوليو) الماضي، أما بعده فارتفعت وتيرة التحريض الطائفي، مهددة بعودة الحرب الأهلية التي بدأت بوادرها في اشتباكات مذهبية في حي ذي غالبية سنية في قلب بيروت. ولعب الجيش خلالها دوراً أساسياً في التهدئة، من دون أن يتورط في القتال، حتى أن بعض من كان يخطط للحرب اتهمه بالتواطؤ مع المعارضة، وطالب بتغيير قيادته وعقيدته.

في هذا المناخ أصبح مسلحو الضنية يستطيعون التحرك بحرية. وأصبح حلفاؤهم غير اللبنانيين يأتون لينضموا اليهم في الجهاد «ضد بلاد الكفار»، مستفيدين من العطف عليهم باعتبارهم أداة في الصراع ضد النظام السوري المتهم من جهات حكومية بالطموح للعودة الى لبنان.

وفي هذا المناخ أيضاً ترعرع تنظيم «فتح الإسلام» الذي وجد ضالته في مخيم فلسطيني صغير قرب طرابلس، لأنه لا يستطيع خطف أي مخيم آخر فيه منظمات فلسطينية عريقة ومناضلة فعلاً. استقبل التنظيم متطوعين عرباً من مختلف الأقطار، تحت شعار جهادي لا علاقة له بفلسطين، إلا بالاسم، لذا كان معظم عناصره غير فلسطينيين، ما يفسح المجال لأي جهاز استخبارات باختراقه.

في كثير من التبسيط الدعائي الذي وسم حملة التحريض الطائفي (هل خططت لها مؤسسة ساتشي وساتشي) تتهم جماعة 14 آذار سورية بتجنيد وتسليح عناصر «فتح الإسلام» للحيلولة دون إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن. وقد يكون هذا صحيحاً، إذا أخذنا في الاعتبار طريقة عمل الاستخبارات العربية، لكن أي نظرة أكثر تعقيداً تؤكد استحالة الوقوف في وجه إقرار المحكمة بهذه الطريقة، فتفجير الموقف قد يعجل في إقرارها لأن الدول الكبرى لا تخضع لهذا النوع من الابتزاز، فضلاً عن أن الولايات المتحدة لا تعير اهتماماً لـ «الحروب الصغيرة».

التحريض الطائفي والمذهبي أتاح لـ «فتح الإسلام» أن تنمو بسرعة مذهلة، وأن تتمدد الى خارج المخيم وتنشئ مراكز وقواعد في أحياء متعاطفة مع طروحاتها المتشددة.

إذا كان من فائدة لمعارك مخيم نهر البارد، على رغم مأساة اللاجئين الفلسطينيين، فهي أنها أكدت خطأ المراهنة على نشر الوعي الزائف للمواطنة، بالاعتماد على التجييش المذهبي. فهل أدركت الطبقة السياسية اللبنانية ذلك؟ وهل ستضع المحكمة الدولية وراءها، بعدما حولتها الى قميص عثمان لتمسك بالسلطة، وتنطلق في معالجة القضايا الأساسية. وفي مقدمها تحقيق بعض العدالة للفلسطينيين، وهم مسلمون بالمناسبة، كي لا تبقى مخيماتهم مأوى لكل إرهابي من «فتح الإسلام» وغيرها؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)