كان الحدث يجري داخل مخيم نهر البارد الفلسطيني. وكان الجيش اللبناني يقصف مواقع لتنظيم «فتح الإسلام» وكان القصف يصيب مدنيين فلسطينيين. ومن هنا برز طابع فلسطيني لهذه المواجهة، بسبب المكان ونوع الضحايا فحسب، أما في الجوهر فإن الحدث لم يكن حدثا فلسطينيا على الإطلاق، وحتى الجيش اللبناني، الذي قدم في الاشتباكات دماء زكية، لم يعتبر نفسه في صراع مع الفلسطينيين.

المسؤولون اللبنانيون رفضوا صيغة الاستمرار في الاشتباكات وطالبوا بوقفها. لم يكن هذا الرفض موقفا ضد الجيش اللبناني، بل وسيلة من وسائل حماية المدنيين الفلسطينيين الذين تأذوا كثيرا من القصف والتدمير وغياب وسائل العناية بالجرحى ووسائل نقل القتلى ودفنهم. طالب المسؤولون الفلسطينيون بوقف الاشتباكات من أجل إفساح المجال لمعالجة سياسية، وهي معالجة لا تبدو آفاقها واضحة لأي طرف.

وأمام إجماع الأطراف كافة على أن الحدث ليس فلسطينيا، فإن هذا التوصيف السلبي للأمر يزيد الأمور غموضا، ففي مقابل هذا التوصيف السلبي لا يوجد أي توصيف «إيجابي» يحدد هوية المعركة، أو هوية هذا التنظيم الذي يسمي نفسه «فتح الإسلام». هل هو مجرد عصابة؟ هل هو نبت من تنظيم القاعدة؟ هل هو تنظيم مشبوه مرتبط سرا بجهات أجنبية؟ لا أحد يستطيع أن يجزم بصفة ما لهذا التنظيم، سوى أن أعمالا تخريبية تجري في لبنان وتنسب إليه.

ولكن هذه الصورة الغائمة لا تعفي المسؤولين الفلسطينيين من المسؤولية، فهم حين يطلبون من الجيش اللبناني أن يوقف عمليات القصف وأن يفسح في المجال أمام معالجة سياسية للوضع، فإن المعالجة السياسية لا بد أن تأتي من هؤلاء المسؤولين أنفسهم، فيبادرون إلى استخدام ما لديهم من سلطة مادية أو معنوية داخل المخيم لمحاصرة هذه الظاهرة، أو تقييدها، أو طردها، أو القضاء عليها، وإلا فإنها ستبقى أداة توتير وتفجير تصيب فلسطينيي المخيم بالمآسي.

وأيا كان الحل في النهاية، فإن حادث نهر البارد يبرز التشتت الذي يعاني منه الوضع الفلسطيني، وهو تشتت يمتد من لبنان إلى غزة، ويبرز في اتجاهات متعددة يسير كل منها في اتجاه مختلف عن الآخر، بحيث يمكن القول إنه لم يعد هناك رؤية فلسطينية واحدة جامعة. من هذه الاتجاهات الدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية، تعبيرا عن فشل اتفاق اوسلو، وكإنهاء للوضع الغريب الناشئ الذي يتواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي، ويتواصل في الآن نفسه إعفاء الاحتلال من مسؤولياته، بينما يتم إلقاء عبء هذه المسؤوليات على سلطة فلسطينية محاصرة عسكريا وماليا.

ومن هذه الاتجاهات الإصرار على ضرورة طرد حركة حماس من حكومة الوحدة الوطنية تمهيدا للقضاء عليها، ووسيلة هذا الاتجاه تغذية الحرب الأهلية الفلسطينية، وهو اتجاه يعتقد أنه يمكن ببساطة، إنشاء حلف بين إسرائيل والحرس الرئاسي الفلسطيني، ليقوم الطرفان معا بمواجهة حركة حماس إرضاء لسياسة أميركية تصور حماس جزءا من تنظيم القاعدة كخطر يهدد المواطن الأميركي في بلده، على أن يشكل هذا نوعا من النصر لسياسة الرئيس بوش، بدلا من أجواء الهزيمة المحيطة به. ويستند هذا الاتجاه إلى خطة الجنرال الأميركي (كيت دايتون)، وجوهر هذه الخطة تسليح قوات الرئاسة وتمويلها (من الأموال الفلسطينية المحتجزة في إسرائيل)، لتتمكن من دفع رواتب قوات الحرس هؤلاء. ويتحمس لهذه الخطة (أفرايم سنيه) نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، ويقول في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست «إن الفكرة هي تغيير الميزان الذي مال حتى الآن لصالح حركة حماس، وإنشاء قوات رئاسية مدربة جيدا يمكنها أن تساهم في تعديل ميزان القوى». وبديهي أن الرئاسة الفلسطينية لا يمكن أن تنخرط في خطة كهذه، يتحول فيها الخصم إلى حليف والحليف إلى خصم.

وهناك اتجاه ثالث يعمل من داخل حركة فتح، وباتجاه الاستيلاء على السلطة الفلسطينية. ويتعهد أصحاب هذا الاتجاه بتحقيق الأهداف التي يرفض الآخرون الانخراط فيها. وفي هذا السياق كان من اللافت جدا، التصريحات الصحافية التي خرجت من القاهرة يوم 21/5/2007 على لسان «مصدر مصري موثوق»، اتهم قوى فلسطينية لم يسمها بأنها «تعبث من أجل إذكاء نار الفتنة بين الفلسطينيين، لأن هدوء الساحة الفلسطينية ليس في صالحها». واتهم «بعض الأجهزة الأمنية الرسمية بالضلوع في هذه المخططات». واتهم بالتحديد «أفرادا داخل جهاز الاستخبارات جندوا من أجل تحقيق مخطط يوفر إمكانية القتال الداخلي، ثم الاستيلاء على السلطة». وأكد المصدر أيضا أن «إسرائيل تعمل حاليا على زيادة الاحتقان داخل الساحة الفلسطينية عبر التصعيد العسكري الحالي».

وهناك اتجاه رابع يتمسك بمبادرة السلام العربية كمنهج منطقي للحل، ولكن هذا الاتجاه لا يرى أمامه سوى طريق سياسي مسدود، إذ ترفض إسرائيل المبادرة العربية، بل وترفض حتى مبدأ التفاوض. وهنا يبذل الأردن جهدا متواصلا لإقناع إسرائيل بأن المبادرة العربية تشكل الفرصة الأخيرة أمام إسرائيل لإنجاز تسوية سياسية. ويتداخل موضوع المبادرة العربية مع موضوع آخر تحدثت عنه صحيفة معاريف يوم 18/5/2007، وقالت فيه إن العاهل الأردني طرح على إسرائيل ما يمكن اعتباره خطة تنفيذية للمبادرة العربية، تستند إلى إنشاء «المملكة الأردنية الفلسطينية» بعد إنجاز التسوية السياسية. وقالت الصحيفة إن موفدين أردنيين يصلون إلى تل أبيب ويتحدثون عن هذه الخطة، ولكنهم لا يؤكدون ولا ينفون ما إذا كانوا يمثلون القصر الملكي أم لا.

إن وجود هذه الاتجاهات كلها في وقت واحد، يبرز كيف أن الوضع الفلسطيني يعيش في أزمة. فالفلسطينيون يعيشون هذا الجو السياسي المتشتت للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، كانوا أثناءها موحدين خلف شعار إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، وحين كانوا يختلفون كان اختلافهم يتركز حول أسلوب تحقيق ذلك الهدف، هل يكون بالمفاوضات، أم يكون بالمقاومة، أم يكون بدمج الأسلوبين معا. أما الآن فإن الرؤى تختلف، والاتجاهات تتباعد، وينبع من داخلها نهج الاقتتال من أجل الوصول إلى أهداف خاصة، ترتبط أحيانا بأجندات أجنبية.

يبرز أمام هذه الاتجاهات السؤال السيط القائل: ما هو الحل؟ ما هو المخرج؟ والجواب أنه لا يمكن من داخل هذا النوع من التوجهات إيجاد حل أو مخرج.. وبشكل أدق لا يمكن إيجاد حل أو مخرج فلسطيني. ذلك أن هذا الوضع المتأزم أصبح مرتبطا بالوضع الشامل في المنطقة العربية. أصبح مرتبطا بحالة التجميد القسرية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على أوضاع المنطقة كلها من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى ايران، وإلى أن تتمكن هي من إيجاد مخرج لمأزقها الكبير، وعند إيجاد ذلك المخرج تبدأ مشاكل المنطقة كلها بالتوجه نحو الحل. وبالتحديد نقول إن واشنطن تجمد كل الحلول بانتظار حصيلة معركتها في العراق، إذ تبدو واشنطن حتى الآن مهزومة في العراق، وهي لا تسلم بهذه الهزيمة، وتبذل جهودا غير عادية لكي تحولها إلى نوع من النصر، وبعدها تأمل في أن تفرض حلولها في جميع الساحات. وفي الوقت نفسه تحشد الولايات المتحدة في الخليج العربي أساطيل من السفن الحربية ومن حاملات الطائرات حتى لتكاد تتصادم مع بعضها بعضا، وهي تفعل ذلك حتى الآن من أجل تخويف ايران لكي ترضخ، ولكن سياسة التخويف لا تلغي احتمال شن هجوم عسكري على ايران، من شأنه أن يشعل المنطقة بأكملها، وتتقرر بعد ذلك طبيعة الحلول لمشاكل المنطقة، على ضوء النتائج والتداعيات.

وفي قلب هذه الصورة الفريدة من نوعها في السياسة العالمية، لا يستطيع الفلسطينيون سوى تحسين أوضاعهم الداخلية، وفي مقدمة ذلك الكف عن الاقتتال، والاقتناع بأن طرفا لا يستطيع أن يلغي طرفا آخر، والتعاون بين الأطراف الأساسية لطرد كل الحالات الشاذة التي تسعى إلى تحقيق طموحات ذاتية وتنتهي بالاستسلام أمام شروط العدو. في قلب هذه الصورة لا يملك الفلسطينيون سوى تعميق ارتباطهم مع الوضع العربي المحيط بهم، بعد أن تلاشت على أرض الواقع إمكانية إيجاد حلول فلسطينية منفردة مع إسرائيل. وهذه سياسة انتظار لا غير. انتظار مع سعي لتخفيف الخسائر إلى أقصى حد ممكن، وبعدها يمكن العودة إلى طرح السؤال البسيط والصعب من جديد: ما هو الحل؟

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)