اتفقت واختلفت مع محدثي في آن. اتفقنا دونما عناء جدل على ما راق لنا من توصيف لم نجد حرجاً في المبالغة فيه إزاء الوضع العربي المؤسف. بل قل الوضع المريع في مثل هذه الحقبة الأخطر والمصيرية من عمر الأمة. واستطردنا فيما اتفقنا عليه، حتى أننا لم نتوقف كثيراً أمام تمحيص نعتنا لواقعه، أو ما توفر لنا من أوصاف لمثل هذا الوضع المُسفّ، مثل: المنحدر، البائس، المزري، اللامعقول... حتى أننا لم نجد غضاضة في التباري باحثين عما تحبل به لغة الضاد الثرية من مفردات تفي بالغرض الذي يشخص حال أمة مغيبة مقهورة يتناهش الأعداء والطامعين كتلتها التاريخية أحشاءً وأطرافاً...

اتفقنا، مثلاً، على أن الفلسطينيين، والعراقيين، والسودانيين، والصوماليين، واللبنانيين... بل وكل العرب... في هذه الأيام العجاف هم في حالة من يطحن بلا رحمة على مدار الساعة... يجري هذا الطحن على رؤوس الأشهاد، وحيث عزّت الإجابة على وا معتصماه... ويصهرون بين شقي رحى العجز العربي المشين والتواطؤ الدولي المكشوف... حيث يغري الشق الأول من هذه الرحى بامتياز، أي العجز، الشق الثاني، أي االتواطؤ، على التفنن باقتدار في تواطئه، والإمعان في مطامعه والمجاهرة بها دونما وجل أو حسابات مردود سيء على مصالح، أو خشية من ردود أفعال مقابلة، غابت، أو هو لا يتوقعها أن تبدر على مثل هذا التواطؤ... اتفقنا على ما يبدو أن الجميع متفقون عليه في وطننا العربي هذه الأيام...

... واختلفنا، وهذا ما يُختلف عليه أيضاً في هذا الوطن الكبير الجريح، لاسيما ما يدور من جدل حوله بين النخب الحائرة التي تجد نفسها رهن المهرولة بين نقيضين هما، ضرورة الوقوف و هاوية التسليم بقدر الانبطاح، وذلك كان ويظل أمراًُ مدار اختلاف فريقين، واحدهما:

إما منكسر إرادة، أو منهزم روح، أو مستلب رؤيا، أو ملتاث في وعي، لسان حاله المثل الشعبي القائل: فالج لا تعالج... ومن هذا الفريق من انحدر استلاباً إلى حال هي أقرب إلى تقليد أو افتتان أو تماهي الضحية مع جلّادها... وثانيهما:

جمع بين الحالم والواثق والمؤمن والآمل العنيد بأن هذه الغيمة الانحدارية مرحلية وإلى زوال. وأن هذه الأمة، ولها مثل تاريخها وعراقتها ومخزونها الكفاحي الهائل، لابد وأن تجد سبيلها للخروج الأكيد من كبوتها، وإنها حتماً ستنهض لامحالة مما يبدو، زيفاً لا واقعاً، وكأنما هو ركامها...

كان محاوري لا يسوءه أن ينطق باسم الفريق الأول، واختار طائعاً، وقد يأس من جدوى الوقوف الصعب الباهظ الثمن، سهولة الانبطاح!

و لعل كليهما، الفريق الأول والثاني، ونحن نعيش مرحلة انعدام الوزن العربي، سوف يبالغ بالضرورة في منحاه...

في العجز العربي، لا مبالغة في القول أن المرء قد يعجز عن فهم مبررات استفحاله إلى هذا المدى اللامعقول، بل و اللامنطقي، ويكفي هنا مراقبة الموقف العربي من المحرقة الفلسطينية المستمرة، التي يرتكبها من كان من المفترض أنه عدو الأمة، ضد شعب قضية قضاياها أو ما اصطلح على أنه قضيتها المركزية في فلسطين... الأرض العربية الفلسطينية تهوّد على مدار الساعة، والناس هناك يذبحون بدم بارد، والتجمعات البشرية المكتظة بها المعازل المقطعة الأوصال تقصف بآخر مبتكرات آلات الموت المتطورة... قصف كل شيء، أكان بشراً أو حجراً أو نباتاً... من المدارس والمؤسسات والبنى التحتية وحتى وكالات الصرافة ومحلات المواد الغذائية... السيارات وكل ما دب على الأرض أو يتحرك على الطرقات... وذلك يتم دونما وازع أو مانع أو رادع أو مجرد خشية من مساءلة... لماذا؟

أولاً، لطبيعة عدوانية استعمارية وحاقدة، وثانياً، بتشجيع من عجز المقابل وهزالة حاله، وثالثاً،ً بمباركة من تواطؤ دولي فاقع لم يعد يتستر ولو بورقة توت... هذا المناخ المواتي للوحشية الإسرائيلية قلبت رياحه المسمومة المنطق على رأسه، ليصوًّر فيه الضحية بقدرة قادر جلاداً والجلاد ضحيةً أو حملاً وديعاً... أولا تتصرف إسرائيل هذه الأيام، في المنتديات الدولية تحديداً، وكأنما هي ضحية المحتلين الفلسطينيين؟!!

وخذوا مثلاً يكشف إلى أي مدى وصلت الوقاحة والصفاقة الإسرائيلية... إنه ما قيل من اقتراح قدمته وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني إبان زيارتها الأخيرة للقاهرة، اقتراح يقضي بإقامة سد مائي في الأراضي المصرية يوازي الحدود مع قطاع غزة، طبعاً بتمويل أميركي، مهمته منع تهريب السلاح للمقاومين الفلسطينيين، بالإضافة إلى ما رشح من مقترح آخر يُدرس كما يقال راهناً في الخارجية الإسرائيلية، هو استقدام "قوات طوارئ دولية لتعزيز الجهود المصرية لمنع هذا التهريب"!

... ليفني لم تكتفي بهذا، بل قيل أنها هاتفت عرباً من نظرائها توسطهم من أجل السعي لإيقاف تساقط صواريخ المقاومة الفلسطينية التي تطلق من غزة على المستعمرات الإسرائيلية!!!

في التواطؤ الدولي، يكفي أن نشير إلى أنه، وفي حومة الصراخ والوعيد والتهديد وارسال المزيد من السفن الحربية للخليج على هامش أزمة الملف الننوي الإيراني، لاتجد إسرائيل غضاضة في تسريب ما قالت أنه تفكيرها قبل عقود في استخدام قنبلة نووية ضد العرب إبان حربي 1967 و 1973!

تماماً، كما لا تجد غضاضةً في وضع لقوائم الموت وإعلانها سلفاً، وعلى رؤوس الأشهاد، حول ما تقوم به من التصفيات والإغتيالات التي نفذت والتي برسم التنفيذ لعديد القادة والسياسيين الفلسطينيين... في حين ينشغل ما يدعى "المجتمع الدولي" ويشغل العالم معه، بضجيج محاولاته إخراج ما تدعى المحكمة الدولية بتوظيفاتها السياسية لا حرصاً على عدالة، والضغط لإقرارها في مجلس الأمن وفق البند السابع ، بدعوى الحرص على محاكمة مرتكبي جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، حتى قبل انتهاء التحقيق أوالوصول إلى الكشف عن هوية المرتكبين للجريمة واتّهامهم!

التواطؤ الدولي، مسلسل يمكن ملامسته ليس في فلسطين فحسب، بل في كل المناطق الموصوفة بالساخنة في بلادنا العربية... التواطؤ مع الأثيوبيين في الصومال، ومع التبشير والتنصير والانفصالية في جنوب السودان، و لأجل عيون شركات النفط وسارقي الثروات في غربه... مع إخراج الأمريكان من ورطتهم العراقية والعمل على تمكينهم من البقاء في العراق ما بقي النفط فيه، وبقيت سطوة الإمبراطورية المتفردة بقرار العالم.

بين الحالمين أو من يحاولون الوقوف، وأولئك المستلبين أو من يتوسلون النجاة بالانبطاح في الوطن العربي، سوف يظل السجال دائراً، حتى ولو صمد الدم الفلسطيني وهو يفعل، واستفحلت هناك أزمة المحتلين وهي تتعمق، وغدا وجودهم برمته مطروحاً قيد البحث فيما بينهم، أو متداولاً دائماً على مائدة قلقهم العامرة بعُقدٍ لا شفاء لهم منها مردها عدم اطمئنانهم إلى وجود مفتعل لهم في بيئة ليست لهم وهم ليسوا منها، ترفضهم ويظلون الغرباء عنها وفيها... يظل السجال دائراً حتى لو اندلعت المقاومة الصومالية من جديد، وصمد السودان في وجه غزاة "المجتمع الدولي" القادمين تحت يافطة الوجود الدولي الإنساني المقترح في دارفور... حتى لو بدأت سيناريوهات الانسحاب من العراق تحت مطارق ضربات المقاومة تترى... الخطط الأمنية الاحتلالية في بلاد الرافدين كلها فشلت وتم تأبين آخرها، ولم تُجد أسوراها العازلة الغزاة فتيلاً، فالمحتلون طفقوا مكرهين يبحثون عن بدائل للاحتلال المباشر،إن داخلياً، أو عبر التدويل، ومن ذلك: سيناريو الجنرال ديفيد بتراوس القائد الأعلى لجيوش الاحتلال في العراق، والسفير أو المندوب السامي الأمريكي في بغداد أيان كروكر، هذا السيناريو الذي تحدثت عنه صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية، ووصفته بأنه استراتيجية بديلة "سياسية أكثر منها عسكرية"، ترمي إلى تسويات "عبر تفاوض مع وبين الأطراف المتناحرة"، وتقضي، وفق تعبير الصحيفة، ب"عزل المتشددين من قوات الأمن والحكومة"، والاحتفاظ بمستويات مرتفعة للقوات الغازية في العام القادم، وزيادة عديد ما يدعى الجيش العراقي. والكف عن حكاية "نقل السيادة إلى العراقيين"، وأخيراً "التفاوض مع الجميع باستثناء القاعدة"!

وسيناريو ثاني طلعت علينا به "الغارديان" البريطانية، ربما يعكس رؤية بريطانية تحاول إصلاح ما أفسده الراحل عن السلطة رئيس الوزراء توني بلير، ويقضي "بمنح دور أكبر للأمم المتحدة لتخفيف التورط الأمريكي"، أو "تسليم" مسؤوليات الاحتلال في العراق تدريجياً إلى الأمم المتحدة... الأمر الذي يذكرنا بما أنجزته اتفاقيات أوسلو في فلسطين، أي إعفاء الاحتلال من مسؤولياته وتحويله وفق قول بعض الإسرائيليين إلى احتلال مريح أو خمسة نجوم!

هذين السيناريوهين ، لايعنيان أبداً أن المشروع الأمريكي في العراق ينحو نحو التراجع، فهذا ترف لا تعرفه الامبراطوريات عندما تصل قمة قوتها وتبدأ في الانحدار، وإنما هو محاولة مستميتة للحد من الخسائر وترميم مشروعها المتعثر، أو الخروج من الورطة وتلمس سبل البقاء المهيمن في العراق... إنه لا يخرج عن وصية كيسنجر الأخيرة:

"نحتاج إلى وجود هناك كقاعدة للتفاوض... أنا ضد الانسحاب من العراق، لأن الحرب في العراق لن تتوقف عند الحدود... نحتاج إلى مزيج عسكري سياسي"... وعليه، ألم يتراجع الديمقراطيون عن ربط تمويل الغزو بمهلة قصوى ارادوها للانسحاب... ليقول زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ جون بوهنر، مبتهجاً أو شامتاً:

"لقد أذعن الديمقراطيون أخيراً للهزيمة"، أي يسجل هنا أنهم وافقوا على تمويل الحرب دون شروط؟!!

إذن، السؤال هو، ومتى تذعن الولايات المتحدة للهزيمة؟!!

...التواطؤ الدولي يظل ما ظل العجز العربي، والاختلاف بين النخب يظل سجالاً بين من يحاول الوقوف ومن شاء أن يكون خياره الانبطاح أو الانحناء... ويزول العجز وينتهي التواطؤ وتمحى الخلافات فحسب عندما تجمع كتلة الأمة على خيار ليس أمامها من سواه إلا وهو مواجهة ما يواجهها من تحديات... هل تفعل؟

قلنا، أن لاخيار أمامها سواه..!