مشروع القرار الذي تعكف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حالياً على إعداده ليقر من قبل مجلس الأمن هذا الأسبوع، والخاص بتدويل محاكمة قتلة رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، ليس قراراً قانونياً دولياً صرفاً، إنما هو في حقيقته قرار سياسي دولي تريد القوى الغربية تحقيق مآربها السياسية من خلاله.

ذلك أن قضية لبنان – بسبب الجهود الأميركية الحثيثة - كانت قد دخلت مجلس الأمن قبل اغتيال الرئيس الحريري بفترة ليست بالقصيرة. فقرار مجلس الأمن رقم 1461(2003)، الذي يقضي بسيادة لبنان واستقلالية أراضيه، ويدعو الحكومة اللبنانية إلى بسط نفوذها في الجنوب وبقية لبنان، كان قد صدر قبل اغتيال الحريري بأكثر من عام.

كما أنه حين صدر قرار مجلس الأمن رقم 1559(2004)، القاضي بسحب القوات السورية من لبنان، لم يكن الحريري قد اغتيل بعد. الأمر الذي فُسِّرَ في وقته بـ «نية مبيتة ضد الوجود السوري في لبنان».

وبالتالي، فقد كان لمجلس الأمن اهتمام بالغ بالقضية اللبنانية قبل مقتل الرئيس الحريري وبعده، وقد نتج من هذا الاهتمام، عدد لا بأس به من قرارات المجلس، شملت القرارات:

1461(2003) و1559 (2004) و1583 (2005) و1595 (2005) و1624 (2005) و1636 (2005) و1655 (2006) و1664 (2006) و1680 (2006) و1686 (2006) و1697 (2006) و1701 (2006) و1748 (2007).

ولكن يبدو أن اغتيال الرئيس الحريري، جاء ليفتح الباب على مصراعيه للولايات المتحدة لتبسط نفوذها السياسي على لبنان عبر مجلس الأمن، في وقت فقد فيه مجلس الأمن صدقيته.

بيد أن مجلس الأمن يزعم أنه حينما يقر هذا المشروع، فهو إنما يقوم بمهمته المنوطة به، والخاصة بحفظ الأمن والسلم الدوليين اللذين تعرضا للإخلال بعد مقتل الرئيس الحريري. ولكن السؤال الذي قد لا يحوجنا التماس إجابته إلى البحث عند خبراء القانون الدولي في دهاليز المنظمة الدولية، هو: هل سيقوم مجلس الأمن بمهمته السامية في الحرص على حفظ الأمن والسلم الدوليين، فيما لو تعرض رئيس دولة لا ترتبط بعلاقات جيدة مع القوى الغربية النافذة للاغتيال؟ أم أن المجلس قد يرى حينها حكمة عدم التدخل في «شؤون داخلية لدولة ذات سيادة»، حتى لو ثبت تورط «أطراف خارجية» فيها؟

ولعله بات غير خفيٍ اليوم، أن مجلس الأمن لا يتحرك لأجل حفظ السلم والأمن الدوليين - كما هو مطلوب منه بموجب الميثاق - وإنما يتحرك حين تريد منه القوى الدولية الكبرى التحرك، بزعم حفظ السلم والأمن الدوليين. وليست المسألة اللبنانية شاذة عن هذه القاعدة.

وغنيٌّ عن القول أن الاعتقاد الغربي الرسمي بأن مثل هذه الادعاءات تلقى قبولاً شعبياً، هو غباء سياسي ينم عن بُعد فهم العقلية الغربية لواقع الشعوب العربية. فتصديق مثل هذا يتطلب سذاجة سياسية، وهذا أمر متعذر اليوم. إذ كيف يمكن تصديق الزعم القائل إن مجلس الأمن يهمه أمن لبنان، في حين لم يحرك المجلس ساكناً حين اغتيل لبنان بأكمله وقامت إسرائيل بارتكاب أبشع جرائم الحرب الصيف الماضي ولفترة جاوزت الشهر؟ ولو كان مجلس الأمن حريصاً على سلامة وأمن لبنان، فلماذا لم يجرؤ المجلس على إصدار حتى مجرد بيان إدانة للحرب التي شنتها إسرائيل؟

وإذا كان مجلس الأمن يرى أهمية سلامة زعماء الدول، فلماذا لا تُنشَأ محكمة دولية للتحقيق في اغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي لم يعد اتهام إسرائيل بقتله سراً يخفى؟ ثم لماذا لا يفتح باب التحقيق ليشمل اغتيالات الرؤساء الآخرين الذين اتهمت الاستخبارات الأميركية بتدبير مقتلهم من أمثال الرئيس الباكستاني السابق ضياء الحق؟

ولكن المؤلم في قضية المحكمة الدولية المزمع إنشاؤها، هو أن قبول مثل هذه المحكمة يشكل سابقة قانونية دولية خطيرة للمنطقة برمتها. فلبنان بموجب قرار مجلس الأمن المقترح، يوقع على بياض للتنازل عن سيادته السياسية والقانونية. فإنشاء محكمة دولية لمسألة داخلية، قد يكون مقبولاً في ظل وجود حرب أهلية أو عدم مقدرة الحكومة القائمة على بسط نفوذها السياسي والقانوني على أراضيها، أما في ظل وجود حكومة رسمية وسيادة غير منازعة، فهو أمر غير مقبول. بل إن ذلك يتناقض مع المادة 2(7) من ميثاق الأمم المتحدة، القاضية بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.

كما إنه من غير المألوف، ربط هذا القرار بالفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، المتعلق باستخدام القوة العسكرية، وهو أمر تصر الولايات المتحدة على ذكره. كما أن الاستعجال في إنشاء هذه المحكمة قبل اكتمال نتائج التحقيق، وقبل تحديد المتهمين بالجريمة، يعكس الرغبة الجامحة لدى الولايات المتحدة في تسييس القضايا القانونية الدولية المطروحة أمام مجلس الأمن.

إضافةً إلى ذلك، فإن مشروع القرار المقترح لإنشاء المحكمة الدولية، لم يحدد كيفية عمل هذه المحكمة المزمع إنشاؤها، أو مكانها الذي لا يتوقع أن يكون داخل الحدود اللبنانية، كما أن تمثيل القضاة اللبنانيين في المشروع المقترح للمحكمة لا يتجاوز الثلث. فضلاً عن أنه، بموجب نظام المحكمة المقترح، يمكن للمحكمة استدعاء من تشاء، بغض النظر عن حصانته الديبلوماسية والسياسة، وهذا يشمل جميع المسؤولين بمن فيهم رؤساء الدول، وفي هذا كله تعدٍ على الحقوق الدستورية الداخلية.

كما أن المحكمة المقترحة، تجيز لنفسها بحسب المادة 5(2)، محاكمة من تمت محاكمته في الماضي، وإن ثبتت براءته، وهو أمر مخالف للقاعدة القانونية المعترف بها والمعمول بها في العالم أجمع بما في ذلك الولايات المتحدة، والقاضية بعدم جواز محاكمة شخص واحد مرتين على التهمة ذاتها.

وحريٌّ التذكير بأن ترك تقدير مسؤولية المسؤول عن جرائم مرؤوسيه للمحكمة كما هو مقرر في المادة 3(2) من المشروع المقترح، أمر قد يخشى من سوء استغلاله سياسياً، خصوصاً في ظل سيطرة الولايات المتحدة على الأمر.

لأجل ذلك، فإن ما يمكن أن يخسره لبنان بقبوله تدويل قضية محاكمة المتورطين في اغتيال الحريري من الناحية القانونية وربما السياسية، أكبر بكثير مما قد يحققه. ذلك أن الأزمة اللبنانية الحالية جادة وخطيرة، وقد بدأت أعراضها السياسية الداخلية تظهر على السطح، وستزيد ولا تنقص. ولكن حل هذه الأزمة لا يمكن أن يكون قضائياً دولياً أو عسكرياً. الحل لا بد أن يكون سياسياً داخلياً فحسب، وذلك لن يتم إلا باجتماع الفئات المختلفة حين تضع مصالحها الخاصة جانباً وتتحمل مسؤولياتها تجاه أمتها اللبنانية.

فالمسألة اللبنانية المعروضة أمام مجلس الأمن اليوم، هي قانونية دولية بالدرجة الأولى، ولا يجوز تسييسها. ولكنها تؤكد من جديد كيف أن العلاقة بين القانون الدولي وعالم السياسة، أقرب ما تكون إلى الماء الطاهر إذا سقطت فيه نجاسة. فعالم القانون الدولي نظيف وواضح ومحدد المعالم، ولكن السياسة الدولية لعبة قذرة، وكثيراً ما تسيء إلى القانون الدولي حين تختلط به. وتبعاً لذلك، فإن قرار مجلس الأمن الذي سيقر هذه المحكمة بعد أيام لن يكون سوى «كلمة حق أريد بها باطل»!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)