سوف تظل حركة الإخوان المسلمين محظورة كانت أم شرعية تمثل إشكالية كبرى في الحياة السياسية للدولة المصرية، وربما تتجاوز ذلك الى دول أخرى لديها نفس الظروف، وهنا يجب أن نعترف منذ البداية أن ظاهرة “الإسلام السياسي” مصرية المولد منذ بدأت الجماعة على يد الإمام “حسن البنا” في مدينة الإسماعيلية عام ،1928 وبعد سنوات قليلة من سقوط آخر دولة للخلافة الإسلامية عندما أسلم “رجل أوروبا المريض” الروح فخرجت معظم دول الشرق الأوسط والبلقان من عباءة الامبراطورية العثمانية المنهارة، يومها فكرت بعض النظم الإسلامية في وراثة “آل عثمان” وتقدم الملك المصري “فؤاد الأول” الصفوف في ذلك الاتجاه الى أن تحطمت طموحاته فكرياً على صخرة الكتاب الشهير “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ “علي عبد الرازق” لذلك جاء ميلاد حركة الإخوان المسلمين كتعويض بديل عن سقوط الخلافة ولملء الفراغ الشعبي الناجم عن انفراط عقد الدولة الإسلامية الكبرى التي ظلت تحتضر لقرن كامل منذ أن وجه لها مؤسس مصر الحديثة “محمد علي باشا” ضربة قاصمة تمثلت في حركته الاستقلالية، ويهمني أن أسجل أمام القارئ وبكل أمانة وتجرد أمرين أساسيين هما:

(1) أعترف أنني أقف على طرف نقيض مع فكر جماعة الإخوان المسلمين مؤمناً بأن الأمة هي مصدر السلطات وأن تداول السلطة هو التعبير الحقيقي للديمقراطية.

(2) أنني أعتقد وفي الوقت ذاته بحق الجماعة في التعبير عن فكرها وأدافع عن ذلك، إعمالاً لمقولة “فولتير” الشهيرة “إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً للدفاع عن حرية رأي قد أختلف معه”. ولماذا أذهب بعيداً؟ ففي حضارتنا العربية الإسلامية مقولة شهيرة للإمام “الشافعي” الذي قال “إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

.. ونحن إذ نستند الى هاتين النقطتين بدءاً من الاختلاف الكامل مع الجماعة وصولاً إلى حق أتباعها في التعبير عن رأيهم، فإننا نضع بذلك النقاط فوق الحروف ونقدم رؤية واضحة في هذا الموضوع الشائك من دون لبس أو التواء، لذلك أسمح لنفسي بعد هذه المقدمة بأن أشير الى الملاحظات التالية:

أولاً: إنني شديد الحساسية لكل فكر يوظف الدين في خدمة السياسة، لأن الدين يكون هو الخاسر، فنحن ننزل به من عليائه الروحية الى الممارسة الواقعية في احتكاك يومي مع قضايا ومشكلات حياتية، على نحو يستدعي الوقوف أمام النص المقدس ويؤدي الى محاولة إرهاق الحجة والمضي في التأويل خدمة لأهداف سياسية لا علاقة لها بالجانب الروحي في الدعوة الدينية، خصوصاً أن الأديان تعتمد على عنصر الإيمان وهو مطلق بينما تعتمد السياسة على عنصر المصلحة- وهو نسبي- فخلط المطلق بالنسبي يؤدي الى حلقة مغلقة تنتقص من مساحة التسامح وتشد المجتمع الى التقسيم الطائفي، وتجر الكيان السياسي شئنا أم أبينا في اتجاه الدولة الدينية مهما حاولنا من لعب بالألفاظ، أو تلاعب بالتعريفات، أو تجميل للصورة.

ثانياً: إن الاحتماء بالنص المقدس يضرب الديمقراطية في مقتل لأنه ينهي الحوار السياسي في لحظة واحدة، فإذا قلنا إن “الاسلام هو الحل” فكل مختلف مع الشعار يتم تصويره وكأنه متنكر لقيمه الروحية، كما أنه يسمح للآخر بأن يرفع شعاراً موازياً يشير الى دينه، وأود أن أؤكد بهذه المناسبة أنني لست غافلاً عن ثراء الشريعة الاسلامية، كما أنني أتفهم ولو بتحفظ المقولة الفقهية بأن “الاسلام دين ودنيا”، ولكنني أقف في الوقت ذاته قلقاً أمام معطيات العصر، وفي هذه الظروف لن يكون خدمة للإسلام، بل قد يكون مبرراً لمزيد من الحرب عليه وربطه بمظاهر العنف التي تواكب التطلع للسلطة وشهوة الحكم.

ثالثاً: لقد آن الأوان لكي نبحث وبعناية وفي جدية عن حل وطني وإنساني وقانوني للتعبير عن فكر جماعة الإخوان المسلمين، ولا يمكن أن يترك الأمر للمصادمات اليومية والإجراءات الأمنية، إذ إن وزارة الداخلية لن تقوم بكل شيء فهي المطالبة بمكافحة الإرهاب وتنظيم الشارع السياسي وتعقُّب الخارجين على القانون وضمان الأمن الجنائي وحتى مرض “إنفلونزا الطيور” دخل في اختصاصها! فرفقاً برجال الشرطة ولنبحث في صيغة عمل سياسي موضوعي وذكي لإدماج جماعة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية، بشرط التخلي عن فكر “سيد قطب” والعودة الى الأصول، بحيث يكون لهم منبر يعبر عن مخزون الحضارة العربية الإسلامية ويطرح رأيهم في إطار الشرعية والقانون، لأن من حق كل مصري أن يعبر عما يؤمن به، مع اعتراضنا الكامل على قيام حزب ديني مهما تكن الظروف والملابسات، ولأتباع الجماعة أن يخوضوا الانتخابات البرلمانية تحت شعارات مدنية وكأعضاء مستقلين، بدلاً من التلويح بالشعارات الدينية التي تستثمر تدين الشعب المصري وتوظفه لخدمة أهداف معينة، وليتذكر أشقاؤنا في الجماعة أنها ولدت كحركة دعوية، ولم تبدأ نشاطها السياسي إلا في الأربعينات من القرن الماضي عندما استهواها بريق الحكم وتطلع مرشدها الأول إلى دخول الانتخابات البرلمانية، فنهره “النحاس باشا” رئيس حكومة الأغلبية وزعيم الحركة الوطنية، خصوصاً أن الجماعة اختارت حينذاك أن تقف الى جانب القصر وأن تدافع عن الملك، سبيلاً للمشاركة السياسية وخروجاً على مألوف الحركة الوطنية، وإن كنت أذكر لهم مبادرة المشاركة المبكرة في حرب فلسطين الأولى عام 1948.

هذه ملاحظات ثلاث أخرج منها بفكر واضح يقول بغير مواربة: لا للأحزاب الدينية على مستوى الدولة، ولكن نعم للدعوة الإسلامية على مستوى المجتمع، لا للدولة الدينية، ولكن نعم للمخزون الحضاري الذي تجسده المادة الثانية في الدستور المصري، لا للمجادلة بالنصوص المقدسة ولكن نعم لحرية التفكير والتعبير في إطار القانون، لا للعزلة والتقوقع ولكن نعم للاندماج السياسي والبعد عن التحزب الطائفي... تلك رؤيتي أسجلها من منطلق وطني وأخلاقي مؤمناً بأن الكنانة سوف تبقى مستقرة آمنة إلى يوم الدين.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)