لم يرد اسمه في أساطير الأولين أو أساطير الإغريق، لكنه جمع هؤلاء في قامة تعلمت من عمتها النخلة ألا تنحني، فهو سيزيف الذي حمل الصخرة صاعداً وهابطاً الجبل، وهو بروميثيوس الذي نهشت النسور كبده، لكنه كان يعاود النمو وهو واقف في العراء وحيداً كالرمح، لأنه سرق سر النار وأطلق الشرارة من الحجر، وهو عوليس الذي ضيعته البحار، تاركاً امرأته على الشاطئ تبكي وتغزل الطيور وتنتظر.

بالأمس، شاهدناه رجلاً في الخمسين، عاش الهجرات الأربع كلها، وجرب المفاتيح التي أعطيت له فلم يصِرّ باب بدءاً من مفتاح وكالة الغوث حتى مفتاح البيت البديل الذي لا جدرانه تستر ولا سقفه يحمي، ولا نوافذه تستقبل الريح، فلسطيني نموذجي حمل على ظهره من بيت في المخيم أباً مشلولاً وأماً شقوا أضلاع صدرها مرتين في عملية قلب مفتوح، واثني عشر طفلاً وثلاث نساء.

هكذا رآه الناس من مختلف الملل والنحل وهو يصرخ على الشاشة، ولم يزعم أنه “جوبيتر” الذي حمل حريته كالصخرة على كتفيه وراح يقطع النهر.

كل ما قاله إنه عربي، وفلسطيني، وكان الخذلان يقطر من شفتيه، والعتاب يجلدنا على الرغم من أنه كظم الغيظ وصام عن البكاء، بانتظار عيد يكون هو ضحيته.

لماذا حمل أباه وأمه وذويه على ظهره وسعى في الأرض بحثاً عن مأمن؟ وما الذي اقترفه في عصر يكافأ به الكاذبون على ما كذبوا، واللصوص على ما سلبوا؟

حتى الأمس القريب، كانت لوحة تقليدية لرسام فلسطيني تختصر المسألة كلها، رجل كهل يحمل عصاه وما تيسر له من أثاث بيته على ظهره ويهز قبضته الدامية في الريح.

لكن هذا السيزيف العربي الذي لم تحبل به أثينا، ولم يولد من كتاب أساطيرها، أضاف إلى اللوحة بعداً كان مفقوداً وأعاد إلى دائرة الدراما قوساً كانت محذوفة. لقد هاجر ثم تعرض لتهجير قسري، من مخيم إلى مخيم، ومن خيمة ضيقة إلى زنزانة أضيق.

حاول الشهيد غسان كنفاني أن يحمل رسالته في عنقه كحمام زاجل فذبحوه.

وحاول خليل الوزير أن يعطيه رصاصة فأعادوها إلى معصمه.

وحاول شعب محاصر أن يفتديه فوجد نفسه مصلوباً، فيما يمر الاسخريوطي محفوفاً بالتصفيق، وقد ملأ جيوبه بأوراق الاعتراف والعرفان والاعتذار.

كم تفتضح الشاشات ما كان مستوراً، وكم هي منحازة إلى هذا السيزيف العربي مثلما انحازت قبل أكثر من أربعة عقود إلى الآسيوي المستباح في عقر داره وحقله ومعبده الأبيض.

شكراً للسيد ماكلوهان الذي نحت مصطلح “العولمة” لكن على غير هذه الصورة المسخ التي عَولمَت الظلم والشقاء بدلاً من أن تعَوْلم العدل.

من منا لم يشعر بالقشعريرة تسري في جسده حتى النخاع وهو يسمع سيزيف الجديد ذا الوجه الأسمر والعينين السوداوين وهو يعدد من حملهم على ظهره فراراً من النار؟ وما الذي سينقشه زماننا في ذاكرة ووجدان اثني عشر طفلاً عربياً كان خيط الدم دليلهم إلى قبر جماعي؟

لم تلده الأسطورة، لكنه حتماً سيلدها، وقد يعتذر سيزيف وبروميثيوس وعوليس له ولأبيه المشلول، وأمه ذات الصدر المفتوح على مصراعيه والاثني عشر طفلاً القادمين من مستقبل له شكل الكمين؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)