على أنهار لا نعرف تضاريسها وبين جماعات لا نفهم كيف نفك طلاسمها، يبدو أن صيف هذا العام سيكون ساخناً ومن دون أن يحرك ساكناً، من جبال صعدة في اليمن الى جبال لبنان، ناهيك عما دار وسيبقى يدور على ضفاف دجلة والفرات في العراق الشقيق.

فبعد قطيعة دامت ثلاثين عاماً، اختارت أمريكا وإيران العاصمة العراقية بغداد لتكون مسرحاً لمنصتهما العلنية هذه المرة بدل عاصمتيهما واشنطن وطهران، حيث عقدت أمس الاول (الاثنين) محادثات نادرة بين طرفين يُعتبر أحدهما (الشيطان الاكبر) في نظر الطرف الآخر ويعتبرها هذا الطرف (حاضنة الإرهاب)، لكنهما تجاورتا أخيراً لبحث كيفية الحد من الشيطنة والإرهاب في آن واحد.

وعلى الجانب الآخر من الوادي، وفي نفس التوقيت، قال متحدث باسم الشرطة اللبنانية إن مهاجمين مجهولين ألقوا قنبلة يدوية قرب دورية للشرطة اللبنانية في بيروت مساء يوم الاحد، الأمر الذي أدى إلى إصابة اثنين من أفراد الشرطة واثنين من المدنيين. وقد هزت بيروت إلى الآن ثلاثة انفجارات أدت الى مقتل شخص واصابة 20 آخرين، أما انفجارات العراق فحتى هذه اللحظة، فقد أدت إلى ضحايا لا يعدهم الحاسب الآلي ولا يحصيهم الرجل الإحصائي.

والوضع يبدو أنه لا يزال بين المطرقة والسندان يتناسل منهما طرزان بعد الآخر، عسى أن يفرض الهيمنة على الشعبين العراقي في مدنه والفلسطيني في مخيماته، فسخونة العراق وبرودة شمال لبنان، يحملان معاً هذه المرة خلايا تحمل ألقاباً إسلامية من جديد، فلا ندري هل تنسب لنفسها تلك الألقاب، أم هناك مرجعيات تمنحها هذه الألقاب بعد مراحل القيد والتسجيل والقبول والاختبار والنجاح، تماماً كما تفعلها الجامعات مع حملة درجاتها العلمية عن جدارة، أو مع من مُنح شهادات الدكتوراه الفخرية عن اعتزاز.

لكن الضحية ليست تلك المرجعيات وإنما المجتمع العربي الإسلامي، فمن شوارع بغداد بمتفجرات “القاعدة” الى مخيمات لبنان بقنابل “فتح الإسلام” لا نسمع لتلك المرجعيات صوتاً ولا صدى بين أنهار الدماء وأكوام الجثث، بل يبقى رجل الشارع المسالم ورجل البستان المزارع ورجل المسجد العابد ورجل الكنيسة المتكهن هو الطريدة والضحية.

الإرهاب قدم نفسه للعالم بعدسته الخاصة، وبتصرفاته الشاذة، لكن المؤسف أن الاعلام ألبسه عن قصد أو دون قصد ثوب الإسلام، أو ألصق به لقب الإسلام. ليس الإرهاب هو الجديد على الساحة، وإنما القميص الذي ألبسوه عنوة وجهراً هو الجديد والغريب في آن واحد. والإرهابي هل يولد إرهابياً؟ أم انه يولد عرياناً بلا ثوب ولا سلاح، ونلبسه نحن الثياب والقناع؟ وأعتقد كما يعتقد (فرويد) أن كل إنسان بداخله وحش بدليل أنه لو ألقى مراهق (والكلام لفرويد) من الشباك حصوة أو قاذورة أو أطلق كلمة نابية على مهذب يمشي في الطريق، في قمة الأخلاق والتهذيب، فإنه سيتحول آنياً الى وحش مفترس يجري وراءه بسواعد الوحوش وأنياب المفترسين وسواعد الإرهابيين!

لو سايرنا نظرية فرويد ولو افتراضياً فكل منا هو إرهابي في نظر الطرف الآخر كما هو الحال مع الشخص المهذب الذي يجري خلف المراهق، فهو إرهابي أيضاً في نظر المراهقين الذين رموه بحصى أو بكلمات نابية وهم يضحكون، تماما كما على ساحة المفاوضات اليوم ببغداد قد تنظر إيران إلى المفاوض الامريكي على أنه الإرهابي، كما ينظر السفير الامريكي الى المفاوض الإيراني على أنه منسوب للمدرسة الإيرانية التي ترفع شعار الموت لأمريكا و”إسرائيل”.

وتتهم أمريكا إيران بالعمليات الإرهابية في العراق فتنفيها إيران، وتتهم أمريكا بأنها المدبرة والمنفذة للتفجيرات والاغتيالات، فكل منهما إرهابي في نظر الآخر، سواء تباعدا في قاعات المؤتمرات أو تجاورا على طاولة المفاوضات.

وقد يسود الصمت المؤقت بغداد، ولكنه صمت مؤقت تزامن مع اندلاع القتال في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين بين “فتح الإسلام” والجيش اللبناني.

ويأمل الشهود في هدنة تشمل شوارع بغداد وإربيل والبصرة والأنبار وصلاح الدين، في حين نشاهد هبوط الطائرات العسكرية الأمريكية في مطار بيروت ويتجدد تبادل إطلاق النار حول مخيم نهر البارد طيلة تلك الليلة التي سبقت اللقاء الأمريكي الإيراني حول سفرة عراقية في بغداد، ويتزامن ذلك أيضاً مع تردد صدى القنابل الصوتية في بيروت، ما يؤكد هشاشة الهدنة وفبركتها الإقليمية العربية الأجنبية.

لو سُئلت اليوم ما أمنيتك؟ لأجبت: أن أزيد رأس المال، ولو سُئلت ثانياً: “أي رأس مال؟” لقلت: “الشباب الشباب” نعم الشباب هم رأس المال الذي لا يهرب، لأنهم ليسوا مثل الصيف الدامي الذي يهرب منه السياح والمستثمرون والمقيمون، أجل الشباب هم رأس المال الذي لا يهرب أبداً، نعم قد يهربون من الاستبداد للحرية، ولكن لن يهربوا من الحرية مطلقاً، والقصد أن نجعل من شباب مجتمعنا جيلاً معطاء يقدس العمل وينبذ العنف والإرهاب.

لم نكن بحاجة إلى أمريكا أو إيران كي يتفقا على هدنة في العراق، ولما كنا بحاجة إلى الجيوش والأساطيل الأجنبية لفرض هدنة في لبنان، لو كنا قد وضعنا شبابنا على الجادة الصحيحة.

لو انطلق كل شاب من مجتمعنا العربي في طريق العمل والإنتاج، وسلك جادة الصواب منذ اليوم الأول لتخرجه الجامعي وانطلاقه إلى الحياة لما رأينا اليوم في نهر البارد ما يدعو إلى القتال ونزوح الآلاف، ولما رأينا التطرف يدق الأبواب.

والحال نفسه أيضاً على ضفاف دجلة والفرات، فلو توفر للشباب العمل المنتج فإن الوضع في العراق لن يكون أقل أمناً واستقراراً من كثير من بلاد العالم. فالعامل العراقي المعروف بشغفه للعمل لا يقل عن العامل الياباني والكوري والصيني.. الخ.. وهناك إشادة دولية وإقليمية بالكادر العراقي بدءاً من المهندس والطبيب والمحاسب والتاجر إلى المزارع، الى ما لا نهاية.

للوصول إلى الهدنة الحقيقية لا نحتاج إلى طاولة مفاوضات أمريكية إيرانية في بغداد، ولا طائرات أمريكية محملة بالأسلحة إلى بيروت، بل يلزمنا توجيه الشباب وتعليمهم وتأهيلهم وتخريجهم ثم تشغيلهم، وعندها فالأنهار الباردة والساخنة سوف تتحول إلى أنهار من العطاء.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)