بداية لا بد من القول أن (كمال آتاتورك)، أو كما يُسمى "أبو الأتراك"، قد أرسى مبادىء الدولة التركية العلمانية عام 1923م، وهو في هذا الإطار أحدث حالة من القطع، بل الطلاق مع المؤسسة الدينية، حيث أنه وعلى سبيل المثال لا الحصر، قد منع إقامة الآذان، ولبس الحجاب، وإطلاق اللحى، واستبدل العمامة بالطربوش، و(آتاتورك) حاضر في أذهان ووجدان الأتراك كباني للدولة التركية الحديثة، حتى أنه يُترك له مقعد فارغ في البرلمان يُكتب عليه إسمه ويُنادى عليه عند إفتتاح جلسات البرلمان، ويرد أحد الأعضاء أنه موجود، دلالة على علمانية الدولة، ولكن منذ ذلك التاريخ وحتى اللحظة الراهنة، حدثت الكثير من التغيرات والتحولات الإجتماعية والإقتصادية والفكرية في المجتمع التركي، بحيث غدت الأحزاب الإسلامية قوة رئيسة وبل قوة مسيطرة في المجتمع التركي، والبعض يُحاول أن يُصور المشكلة على أنها كما تبدو في الظاهر صراع بين التيار الإسلامي، الذي يُعبر عنه "حزب العدالة والتنمية" "الإسلامي"، ومرشحه الذي كان مطروحاً للرئاسة (عبدالله غول) من جهة، وبين المؤسسة العسكرية القوية والتيار العلماني من جهة أخرى، والذي سيَّر مؤخراً مظاهرات ضخمة ناهزت المليون شخص تحت شعارات "لا للشريعة ولا للإنقلاب".

ولكن المشكلة والصراع المطروحين ينطويان على قضية أخرى، هي علاقات تركيا الإقليمية وسياساتها في المنطقة، فقد نجح "حزب العدالة والتنمية" وتحديداً بعد غزو العراق، في ممارسة سياسات تميزت بالإستقلال النسبي عن السياسات الأمريكية والأطلسية في المنطقة، كما مكنتها هويتها الثقافية من التعبيرعن تفاعلات الشارع التركي مع القضيتين العراقية والفلسطينية، وكذلك مد جسور الثقة مع كلٍ من سوريا وإيران، ومكانة تركيا ودورها الإقليمي في المنطقة والجوار العربي، وداخل المجموعة الإسلامية، يجعلها مصدر الإهتمام الإقليمي والدولي، ومن هنا نرى أن المؤسسة العسكرية، والتي لعبت دوراً رئيساً في التأزيم السياسي، ودفع الأمور إلى التصعيد والتهديد بإستخدام القوة من أجل منع (عبدالله غول) زعيم "حزب التنمية والعدالة الإجتماعية" من الترشح لتولي منصب الرئاسة، له صلة مباشرة بالرؤى والتصورات والمواقف السياسية، حيث أن الخيار الإقليمي لحكومة "العدالة"، والتي أحدثت ما يُشبه القطيعة مع مسيرة طويلة من قضية الطلبات الأطلسية والأمريكية خصوصاً، وكذلك فإن المؤسسة العسكرية، هي حسب الدستور مكلفة بحماية الجمهورية العلمانية...

وبالتالي فإن تولي رئاسة الجمهورية، لرئيس ذو فكر "إسلامي"، فهناك مخاطر لفرض رؤيته وفكره وثقافته على المجتمع التركي، فالرئيس أيضاً وحسب الدستور التركي، يتمتع بصلاحيات واسعة، ومدة بقاءه في سُدة الحكم هي سبع سنوات، وهو يستمر في ممارسة دوره ومهامه وصلاحياته، وبغض النظر عن الحكومات تذهب وتجيء مع نهاية فترة ولايتها، والرئيس له حق تثبيت التعيينات أو حجبها، وكذلك تعيين رؤساء الجامعات، وبالتالي هذا يُمهد لتشريع وفرض سياسة التحجب في الجامعات ـ اللباس الشرعي ـ ، وأيضاً تتخوف المؤسسة العسكرية من تعزيز دور الدين في السياسة والحياة العامة، وهناك نقطة يجب الإشارة إليها، أنه في حالة السماح (لغول) أو (أردغان) بخوض الإنتخابات وفوز أحدهما، فهذا يعني أن زوجة الرئيس ستظهر محجبة في المناسبات العامة، وتُصبح المسألة أبعد من غطاء الرأس وكونها لها علاقة بالحرية الشخصية، لكي تُصبح نهجاً ورؤية وثقافة، يتم تسييدها في المجتمع، حيث أن الظهور بغطاء الرأس في المناسبات العامة، يُحرمه القانون والبرلمان والقصر الجمهوري للشخصيات العامة.

وهنالك نقاط جوهرية يجب التطرق لها تُساعدنا في توضيح الأمور، أن الأحزاب العلمانية والتي تتمسك (بآتاتورك) تميزت فترات حكمها، بدخول البلاد في الكثير من الأزمات الإقتصادية والسياسية، وكذلك سوء الإدارة والفساد، والخلافات السياسية وغيرها، في حين نجح "حزب العدالة والتنمية" "الإسلامية" في تحقيق نوع من الإستقرار السياسي والإقتصادي، حيث حقق الإقتصاد التركي معدلات نمو مرتفع قياساً، بالفترات السابقة، وتم مراقبة التضخم وخفضه، والإصلاحات راعت حاجات مختلف الفئات والطبقات الإجتماعية من مزارعين، رجال أعمال، صناعيين وعمال... إلخ، وكذلك نجح "حزب العدالة والتنمية" في القيام بإصلاحات إجتماعية وسياسية حسب ما نصت عليه إتفاقية "كوبنهاجن"، من أجل الحصول على عضوية الإتحاد الأوروبي.

ونقطة الإهتمام الجوهرية والمفصلية للمستثمرين الأجانب في تركيا، هي ليست غطاء الرأس للنساء التركيات، ولا قوانين الجامعات، بل ما يهم المستثمر، هو بالأساس إستقرار سياسي، وحكومة قوية، والإستمرار في سياسة التقشف وعدم صرف الأموال بدون كوابح وضوابط وبشكل عشوائي.

ونقطة أخرى في غاية الأهمية وهي، الإحتفاظ بعلاقات جيدة ووطيدة مع صندوق النقد والبنك الدوليين والإتحاد الأوروبي، وإستقرار وثبات في العلاقات مع أمريكيا والكيان الصهيوني وأوروبا، ومن هنا فإنه منذ عام 2002، عام تولي "حزب العدالة والتنمية" السلطة، وهو يُحافظ على علاقات جيدة مع المؤسسة العسكرية القوية وقوى التيار العلماني، ولكن هناك العديد من الأسئلة المشروعة، والتي تُثار حول المشهد التركي في المدى البعيد، وخصوصاً في ظل التطورات الإقليمية والدولية! هل ستتصاعد الأزمة بين المؤسسة العسكرية والقوى العلمانية من جهة، وبين القوى والأحزاب الإسلامية من جهة أخرى، إرتباطا بالجغرافيا الساسية والمصالح البعيدة، لهذا البلد الهام سياسياً وإقتصادياً وإستراتيجياً لتصل حد المواجهة والإحتراب الداخلي، أم أن النموذج التركي سيُثبت قدرته على الإستمرار من خلال الآليات الديموقراطية والدستورية؟

وهاتان المسألتان رهنٌ، بمدى قدرة الحركة الإسلامية على التكيف مع النظام العلماني الذي يحرسه الجيش من جهة، ومن جهة أخرى على مدى قدرة القوى العلمانية على التكيف مع حقيقة، أن التيارات الإسلامية هي مكون طبيعي في نسيج المنطقة، وتعبيرات شعوبها السياسية، وينبغي التعامل معها من هذه الحقيقة، وخارج منطق القهر والرفض المسبق الذي يمكن، أن يقود إلى ان هذه التيارات تقوم بتنحية المعتدلين وهو ما يُنذر بأزمات أشد خطورة.

إن ما سيبدو وسيكون عليه المدى الأبعد للمشهد التركي رهن بذلك وبالتطورات الإقليمية والدولية، وقدرة القوى العلمانية والإسلامية التركية على ضبط إيقاعاتها وخلافاتها على قاعدة وحدة المجتمع التركي الداخلية وفق قواسم مشتركة، وبما لا يدفع نحو تطور وتصاعد الخلافات بينهما، وبما يُمهد لإنقسام مجتمعي، يُدخل البلاد في أتون الصراع والإحتراب الداخلي خدمة "لأجندات" وأولويات غير تركية.