ثلاث مقاربات مختلفة حول الحوار الرسمي الأمريكي الإيراني الأخير في بغداد:

الأولى ثقافية، إذا جاز التعبير، وتتعلق بالمعطيات التي تجعل عدوين لدودين يقفان على شفير مجابهة عسكرية، يقرران فجأة الجلوس إلى طاولة الحوار. المسألة هنا ترتبط على الأرجح بزواج غير مقدس بين نزعتين “ثقافيتين”: البراغماتية الأمريكية المتطرفة، والدهاء الفارسي المفرط. كلتا هاتين النزعتين تضرب جذورها عميقاً في تاريخها الأمريكي أو الإيراني، وتكيف إلى حد بعيد السياسة الخارجية لكلا البلدين.

البراغماتية، وهي الفلسفة التي أقيم عليها كل صرح الحضارة الأمريكية، جعلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتأرجح طيلة قرن كامل بين ما يحب الأمريكيون أن يسموه القيم العليا الأمريكية، وبين المصالح الانتهازية الدنيا. وقد كان النصر دوماً، عدا حقب قصيرة في التاريخ، لهذه الأخيرة.

والدهاء الفارسي، الذي ولد على يد حاضنات إيديولوجية عدة من قورش إلى الصفويين، يكاد يكون حاضراً في كل التوجهات الخارجية الإيرانية. وقد كان عبد الحليم خدام الأكثر توفيقاً حين وصف هذه الظاهرة المثيرة بقوله “لم نكن نعرف حقيقة ما يريده الإيرانيون إلا بعد أن تقع الأحداث”.

المقاربة الثانية استراتيجية، أو بالأحرى التضارب الاستراتيجي بين الطرفين. فما تريده طهران، وهو الاعتراف بدورها الإقليمي في منطقة الخليج قزوين، لا تستطيع واشنطن إعطاءه. وما تريده واشنطن، وهو تغيير سلوكيات النظام الإيراني، لا تستطيع طهران أن تقبله. وبالتالي فإن نتائج حوار بغداد ستقتصر على الأرجح على استطلاع الجانبين لنقاط الاتفاق المحتملة بينهما حيال نقطة يتيمة: العراق. وهذه قد تشمل تخفيف الضغط العسكري على القوات الأمريكية، في مقابل مكاسب محددة لحلفاء إيران العراقيين.

المقاربة الثالثة عاطفية.. لماذا هي عاطفية؟

لأن أي عربي لا يزال فيه شيء من النبض القومي، أو لا يزال على الأقل يرطن باللغة العربية، لا يسعه إلا الشعور بمرارة قاتلة وهو يرى أطرافاً أجنبية تجتمع فوق أرض دول عربية كبرى وشقيقة لتقرير مصيرها. في الأمر إذلال كامل وطعنة نجلاء لقرنين من الزمن كافح خلالهما العرب للتخلص من الاحتلالات واستعادة الكرامة والاستقلال الوطنيين.

هل ثمة علاقة ما بين هذه المقاربات الثلاث؟

أجل. إنها جميعاً بأبعادها الثقافية والاستراتيجية والعاطفية تذكّرنا نحن العرب بأي مصير ينتظرنا اليوم، وسيكون لنا بالمرصاد غداً.

وهو مصير يبدو، من أسف، بائساً من كل الوجوه.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)