أثارت بعض البيانات المذيّلة بتوقيع تنظيم القاعدة في فلسطين، التي وُزّعت بشكل محدود في قطاع غزة منذ أعوام ثلاثة مضت، مجموعة من التساؤلات عن مدى الحديث الجدّي عن وجود تنظيم للقاعدة في فلسطين كما كانت وما زالت تروّج المصادر الأمنية الإسرائيلية. وما ساعد على الحديث عن وجود القاعدة في فلسطين هو التطور العنكبوتي في انتشارها في بعض البلدان العربية كالعراق وبلدان الخليج وشمال إفريقيا. وفي حقيقة الأمر أن خصوصية الساحة الفلسطينية وفرادتها قد أفرزتا معطيات غير شبيهة بالمعطيات التي وفرت التربة المناسبة لانتشار خيوط التنظيم القاعدي في العديد من البلدان، حيث بات الإسلام الوسطي المعتدل جزءاً من المعادلة السياسية والكفاحية الفلسطينية في إطارات العمل الوطني الفلسطيني، وفي الشارع الشعبي عموماً.
فمع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، وجدت حركة الإسلام السياسي متسعاً لها في صفوف حركة فتح، وخاصة إذا علمنا بأن غالبية القيادات الفتحاوية هي إخوانية الجذور. ففي البداية شكلت حركة «فتح» بيئة عمل لإسلاميين فلسطينيين لم تعبّر حركة الإخوان المسلمين عن طموحاتهم إلى الانخراط في العمل العسكري. على هذا النحو التحق عبد الله عزام بحركة «فتح» قبل عام 1970 وأنشأ ما سمي في الأردن «معسكر الشيوخ» الذي ضم عدداً من المشايخ الفلسطينيين الذين لم تفسح لهم حركة الإخوان المسلمين أي عمل عسكري. ولكن ما لبثت التجربة الإخوانية أن انتكست في حركة فتح، فانسحب قادتها، ومنهم الشيخ عبد الله عزام الذي أدّى دوراً كبيراً في وقت لاحق، حيث كانت الحالة الأبرز التي هيّأت لانطلاق ظاهرة الأفغان العرب أواسط ثمانينيات القرن الماضي. فقد أسس «بيت الأنصار» في مدينة بيشاور الباكستانية، الذي يعتبر النواة الفعلية لـ«تنظيم القاعدة» ومن حينها ترك عبد الله عزام تأثيراً كبيراً وسط مجموعات ليست بالضيقة من الشباب الفلسطينيين الذين انخرطوا في صفوف مجموعات «الأفغان العرب»، ومن ثم تحولت غالبيتهم الى صفوف طالبان والقاعدة، بينما تواتر ظهور أفراد منهم من العائدين الى فلسطين أو الى المخيمات الفلسطينية في الأردن على وجه التحديد على شكل تجمعات أطلقت على نفسها أسماء متعددة، منها «كتائب التوحيد»، و«الجماعة السلفية»، و«كتائب سيوف الحق الإسلامية»، التي نشطت في أعمال قالت إنها تصبّ في خدمة الشريعة، وتهيّئ أسباب الجهاد.
وفي الواقع العملي أن بوادر ظهور مجموعات تناسلت أو جاءت من رحم تنظيم القاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدأت من قطاع غزة، وجاءت في سياق التفاعلات والتحولات التي طرأت على الأوضاع الفلسطينية بعد عامين ونيف من انطلاقة الانتفاضة الثانية، وظهر الإعلان الأول بوجود مجموعات منه في الثاني من آب 2007، من خلال بيان عمليات عسكري تحدث عن قيام مجموعة من مقاتلي تنظيم «القاعدة» في فلسطين بقصف مستعمرتيْ نافيه دكاليم وجاني طال اللتين كانتا مقامتين في قطاع غزة قبل تفكيك مستعمرات القطاع والانسحاب الاسرائيلي منها، مع إعلانات وأفلام تبشّر ببدء نشاط تنظيم كتائب الجهاد في فلسطين «تنظيم قاعدة فلسطين».
وفي حينها تلا البيان الأول لتنظيم القاعدة في فلسطين إعلانها مسؤوليتها عن محاولة اغتيال رئيس الاستخبارات الفلسطينية طارق أبو رجب شنيورة، وتهديدها باستهداف شخصيات فلسطينية أخرى، مستندة الى منطق التكفير الذي دأبت القاعدة على تعميمه، إذ قالت في بيانها الثاني «إننا في تنظيم قاعدة الجهاد ــ ولاية فلسطين ــ نعلن المسؤولية الكاملة عن هذه العملية التي تثبت للجميع تمكّننا من الوصول إلى رأس الكفر... إخوانكم في تنظيم قاعدة الجهاد في فلسطين تمكّنوا من الوصول إلى مقر عمل المرتدّ عن دين الإسلام طارق أبو رجب شنيورة...».
وتبع بيانيْها الأول والثاني، تواتر الأنباء عن إنشاء تنظيم للقاعدة في فلسطين، وقيام وسائل الإعلام وأجهزة الأمن الإسرائيلية بالترويج للمعلومات غير الدقيقة المتعلقة بتضخيم وجود تنظيم القاعدة وانتشاره في قطاع غزة، وذلك لأسباب استخدامية باتت مفهومة في محاولة تشويه الكفاح الفلسطيني العادل وخلطه بالإرهاب، وإثارة الفزع الأصولي وتكرار مقولة «الإسلاموفوبيا» أمام العالم بأسره، وقبل يومين (14/5/2007) نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية خبراً فحواه أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ووزارة البنية التحتية ستشرعان خلال الأشهر المقبلة بتحصين منشآت الطاقة الإسرائيلية وزيادة مصادر الغاز والنفط وتنويعها، وذلك في أعقاب تحذير استخباري عام من نية تنظيم القاعدة استهداف منشآت النفط والغاز في الشرق الأوسط بشكل عام وتلك التي تؤثر في إسرائيل بشكل خاص، الأمر الذي قد يلحق ضرراً كارثياً بالاقتصاد الإسرائيلي.
في هذا السياق، يُلحظ أن ظاهرة انتشار تنظيم القاعدة في فلسطين ما زالت متواضعة ومحدودة جداً، وتتركز في قطاع غزة أكثر منه في الضفة الغربية نظراً إلى طبيعة البيئة الغزّاوية والظروف المعيشية القاسية، التي تساعد على نمو روح التطرف ليس فقط عند مجموعات إسلامية بل عند عموم المشارب الفكرية، إضافة الى إسهام ظروف القمع والكبت ومصادرة الحريات من المجتمع المحيط بالشباب في تنامي هذه الظاهرة، الأمر الذي يولّد قابلية متزايدة لدى بعض الشباب لتبنّي الفكر المتطرف مهما كان مصدره الأيديولوجي. وعليه فإن الاتجاهات المتطرفة بما فيها نواة أو مجموعة القاعدة المحدودة في غزة تعتبر المجتمع فاسداً، وتدعو لتغيير طبيعته باستخدام مختلف الوسائل بما فيها العنف، عبر ممارسة بعض الأعمال في ظل غياب القانون والانفلات الأمني المستشري في الأراضي الفلسطينية. وما ساعد هذه الاتجاهات هو ما وصفه البعض بحالة العزلة القائمة بين الشباب والعلماء وأصحاب الخبرة، التي تتيح الفرصة للتفكير المتطرف، بحيث وقعت الحركة الإسلامية من وجهة نظر البعض في «فخ عدم تهيئة الشباب وأنصارها للتحولات التي جرت، فاعتقدوا أن الحركة الإسلامية ذهبت في اتجاه مغاير».
فضلاً عن ذلك، فإن الاتجاهات المحدودة الفعل والتأثير المشار إليها، تنطلق في عملها أيضاً من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية، التي قد تدفع الشباب لتبنّي هذا الفكر المتشدد، وكذلك وجود منطق العنف الذي يتربّى عليه الشاب منذ صغره في المجتمع. على كل حال، فإن جزءاً كبيراًَ من أفكار المجموعات المتطرفة وثقافتها تُبنى عبر مواقع الإنترنت والمنتديات القريبة من فكر تنظيم القاعدة، والجماعات التكفيرية المنتشرة عبر حضورها على شاشة الشبكة العنكبوتية، وهي أفكار تقودهم في نهاية المطاف إلى انتهاج أسلوب الردّة والتكفير.
ومع ذلك فإن الأجواء الفلسطينية عامة لا تساعد على نمو الظواهر ذات التطرف الفلسطيني وانتشارها فبقيت محدودة الانتشار والفعل، وذلك لأسباب كثيرة، منها أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى وصفات من الخارج، فالبيئة الفلسطينية في الداخل في ظل الظروف القاسية تحت الاحتلال والحصار والفاقة، وخصوصاً في قطاع غزة، قد تساعد على نمو اتجاهات التطرف، لكن هذه الاتجاهات تصطدم مرة جديدة بخصوصية الوضع الفلسطيني المثقل بالتجارب والآلام، والمشبع بالتعددية، والطامح إلى الديموقراطية الداخلية في سياق مشروعه الوطني المتواصل منذ عقود طويلة من الزمن.
وفي هذا السياق، فإن ممارسات الاتجاهات المتطرفة، إن كانت محسوبة على تنظيم القاعدة أو غيره تسيء إلى المشروع الوطني الفلسطيني وتساعد على تشويه الكفاح التحرري الفلسطيني كما في الحادثة الأخيرة في اختطاف الصحافي البريطاني آلان جونستون مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في قطاع غزة.فطيف المقاومة والعمل الوطني، بما فيه الإسلامي الجهادي في فلسطين، أوسع وأرسخ وأبقى من تيارات التطرف الإسلامي الأصولي، وأوسع من حصره بمجموعة متطرفة (موجودة/غير موجودة) وافدة عليه من الخارج. فالإسلام السياسي ومعه الإسلام الجهادي في فلسطين يمتلك من الحضور والفعالية والتجربة الواقعية ما يسد الطريق على قدوم أفكار إسلامية تكفيرية من خارج فلسطين. فبذور الفكر المتشدد موجودة في عقول بعض الفئات من الشباب الفلسطيني، إلا أن من الصعب عليها أن تجد مجالاً للتعبير عن نفسها في ظل انخراط حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي في المقاومة العسكرية وغير العسكرية المباشرة للاحتلال الإسرائيلي، وكذلك فإن المجتمع الفلسطيني يتمتع بحالة ديموقراطية نسبية متقدمة على المجتمعات العربية والإسلامية، وبعيدة من الفكر الاستئصالي ومنابعه، ويرى دوماً في أن الصراع والتناقض الرئيسيين يفترض بهما أن يتوجها نحو الاحتلال الصهيوني لا غيره.