تحل بعد أيام الذكرى الأربعين لهزيمة يونيو 1967 التي يمكن اعتبارها باطمئنان نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى من التاريخ العربي المعاصر، فقد كان لتداعياتها نتائج كبيرة جداً مازالت المجتمعات العربية قاطبة تعيشها وتتأثر بها.

ولعل نتائج هزيمة يونيو 1967 وسمت تاريخنا الراهن وستسم مستقبلنا بتأثيراتها، ويمكن تقسيم هذا التاريخ دون خوف من الخطأ العلمي إلى ما قبل الهزيمة وما بعدها، والفرق بين المرحلتين ليس فرقاً زمنياً بطبيعة الحال وليس فرقاً شكلياً وإنما هو فرق نوعي طوى مرحلة غنية وخصبة وواعدة وأوجد الشروط الموضوعية لمرحلة جديدة لا يخطئ من يسميها مرحلة الهزيمة وما بعدها.

هُزمت الجيوش العربية في يونيو 1967 خلال ستة أيام (بل قل خلال ست ساعات) وخسرت سلاحها وعتادها ونظرياتها العسكرية وإمكانياتها المعنوية والمادية، وتأكد زيف ما كانت تزعمه من قدرة وصمود وتبخرت ظنونها في القوة والسطوة، كما ظهر تهافت مواقفها وشعاراتها التي حكمت البلاد في ظلها سنوات طوال ومنعت مسيرة تطورها الطبيعي والتلقائي، مما أدى إلى انتكاس حركة التحرر العربية الصاعدة وفقدانها زخمها وتسارعها وآمالها في تحرير الأمة العربية وتوحيدها وبناء مستقبلها المنشود.

لم يشهد العرب مثل هذه الهزيمة لا في التاريخ الحديث ولا حتى في عصور الانحطاط، ولم يستطيعوا حتى الآن الرد عليها أو محو آثارها، فقد احتلت إسرائيل خلال أيام أراضي عربية تبلغ مساحتها أضعاف ما اغتصبته من أرض فلسطين عام 1948، أي ما تبقى من فلسطين (غزة والضفة الغربية) وسيناء والجولان وبعض لبنان دون أن تجد من يقف بوجهها.

كما وقف صلاح الدين بوجه الغزو الصليبي في القرن الثاني عشر الميلادي أو كما وقف قطز والظاهر بيبرس بوجه الغزو المغولي في القرن الثالث عشر، حيث أثبتت الأمة في ذلك الوقت أنها تملك من نسغ الحياة ما يكفي للحفاظ على حيويتها وكرامتها وإبقاء شعلتها مرفوعة.

إن المثير للاستغراب هو أن البلدان العربية التي هزمت في يونيو لم تجر تحقيقاً واحداً يبحث عن أسباب الهزيمة ويحدد المسؤولية ويسمي المسؤولين عنها ويهيئ الظروف لأخذ العبر وتفادي الأخطاء والانحرافات التي أدت لمثل تلك الهزيمة، ومازالت شعوبنا حتى الآن لا تعرف كيف تمت الهزيمة ومن المسؤول عنها وتعيش في الظن والتخمين والاستنتاجات غير المبنية على أسس موضوعية، مما فتح الباب على مصراعيه لإلقاء التهم جزافاً وبدون تحفظ مرة على حركة التحرر العربية ومبادئها وشعاراتها وأيديولوجيتها وقادتها (وخاصة الزعيم عبد الناصر).

ومرة أخرى على الحركة القومية العربية (وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي) واعتبارها هذه الحركة وأحزابها ومنظماتها وتجمعاتها قد أودت بالأمة وهيأتها للهزيمة، ومرة ثالثة على (فسق الناس) وإدارة ظهورهم لدينهم وتقاليدهم وقيمهم وغير ذلك، ومازالت شعوبنا تحار عندما تحاول معرفة المسؤول عن الهزيمة بل عندما تحاول معرفة الأسباب التي أدت إليها فكل يغني على ليلاه.

على أية حال كان من أهم تداعيات الهزيمة بعد خسران الأرض انتكاسة حركة التحرر العربية بحكم الواقع بعد أن فشل مشروعها فشلاً ذريعاً، وانتكاسة الحركة القومية العربية وتخليها عن مهماتها بحكم الواقع أيضا، وفتح الباب للحركات السلفية التي تحول بعضها (ولنقل قليلها) إلى حركات إرهابية، وشهدت البلدان العربية بعد الهزيمة تناقضات عبرت عن نفسها بما يشبه الحروب الأهلية أو الفتن الداخلية وهي جميعها متأثرة بتداعيات الهزيمة في الأردن أولاً ثم في لبنان (في السبعينات) وفي سوريا (في الثمانينات) وفي مصر والجزائر (في التسعينات) ولم ينج بلد عربي من الفتن الداخلية هذه.

وازداد عدد الفرق التي تدّعي أنها ناجية وتملك مفاتيح الخلاص، كما تضخم القمع الداخلي والعسف والاستبداد تحت شعار تحقيق الاستقرار وأمن البلاد، ورفضت معظم الأنظمة السياسية العربية القائمة أي إصلاح ينقل المجتمع والدولة إلى مجتمع ودولة حديثين لهما معايير الدولة الحديثة كلها بحجة الحفاظ على الاستقرار ومواجهة (المؤامرات) وأصبحت الحرية والتعددية والديمقراطية حلماً من أحلام الشعوب، وهاجساً مزعجاً من هواجس بعض الأنظمة.

فاهتزت مرجعية المواطنة الجامعة في هذه البلدان، وحلت محلها مرجعيات فاسدة ومتخلفة كالطائفية والإقليمية وأيديولوجية الإرهاب، وعمّت القطرية وصار (القطر أولاً) شعاراً أثيراً لدى الحكام والمحكومين، وبدلاً من حلمنا السابق بتحقيق الوحدة العربية أصبح أملنا المرتجى هو أن نحافظ على وحدة كل قطر ونرد غائلة التقسيم الطائفي أو المناطقي أو الإثني عنه، ومنع تذرر المجتمعات والدول والأقطار القائمة، وفي الخلاصة تراجعت مسيرة التطور.

فبدلاً من ارتفاع مستوى الحياة تحقق انخفاض واضح فيه، ولم نستطع التخلص من الأمية والفقر (والجوع أحيانا) أو نحقق الحد الأدنى من التضامن العربي، أو نتوصل لبناء نظام إقليمي عربي جديد شأن الأنظمة المماثلة التي أقامتها شعوب متجاورة لا تجمعها لغة أو تراث أو تاريخ مشترك، بل جمعتها المصالح المشتركة، حتى أصبح الحفاظ على ما نحن فيه من الأمنيات.

لاشك أن تداعيات هزيمة يونيو1967 ليست مسؤولة وحدها عن كل هذه المآسي التي تمر بها الأمة، فهناك ظروف كثيرة وأسباب عديدة منها الداخلي ومنها الخارجي تضافرت وتواجدت وساهمت في تفاقم الصعوبات وزادت العيب في بنية المجتمعات العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تخلف وضعف واستبداد. وقد علمنا التاريخ أن المؤثرات الحاسمة على تطور مراحل التاريخ لا تنتج عن عامل واحد مهما كان كبيراً ومهماً لأنه لن يكون حاسماً.

إننا لسنا في نهاية التاريخ فالمستعرض لتاريخ الأمة العربية وغيرها من الأمم يلاحظ أن أمم الأرض مرّت بمراحل ضعف وهوان ثم لملمت نفسها وأعادت البناء وحافظت على وجودها، والأمة العربية شأن غيرها كبت ونامت وضعفت ونهضت من جديد خلال تاريخها الطويل عدة مرات، وما أحوجنا اليوم إلى وقفة جادة تدرس أسباب الضعف والتخلف وتصل لاستنتاجات تحدد مكامن الخلل وتستفيد من العبر، وتتخلص من تداعيات هزيمة يونيو ومن أسباب الهوان واستمرار الهزائم

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)