أخيراً، اضطر الرئيس بوش للكشف عن سر معروف: أجل. أمريكا ستبقى طويلاً في العراق، حتى بعد أن تسحب جلّ قواتها منه. وهي ستفعل ذلك على النمط الكوري الجنوبي (وفق تعبير البيت الأبيض): قواعد عسكرية شبه دائمة، وطبعاً بموافقة “الحكومة الشرعية العراقية”.

لماذا أدلى الرئيس بهذا الاعتراف اليوم وليس أمس أو أول أمس؟

لسببين:

الأول: أن موعد إعادة نشر القوات الأمريكية خارج المدن العراقية بدأ يقترب. وهو سيحدث على الأرجح بعد أسابيع قليلة، وسيتضمن سحب ما بين 80 إلى 90 ألف جندي والإبقاء على ما بين 20 إلى 40 ألف جندي، وفق بعض التقارير الأمريكية.

والثاني: أن الرئيس الأمريكي يريد أن يحاصر الحزب الديمقراطي قبل أن يحاصره مع بدء هذه الانسحابات، عبر حمله على الاعتراف هو الآخر بأنه (الحزب) يؤيد وجوداً أمريكياً محدوداً، ولكن طويل الأمد في بلاد ما بين النهرين.

أما لماذا يتشبث بوش والديمقراطيون معاً بالعراق كما يتشبث الصقر بفريسته، فهذا أيضاً بات سراً أكثر من معروف. كتب جون تشابمان، وهو مساعد وزير بريطاني سابق: “الرئيس بوش سيطر على حقول النفط العراقية بهدف تحسين أمن إمدادات النفط الأمريكية. فهذه الدولة تقع في قلب منطقة الخليج التي تنتج ربع البترول العالمي، وتحتوي على 60 في المائة من احتياطي النفط على الأرض. ومع وجود احتياطي في العراق يقدر بنحو 112 مليار برميل، ومع حقيقة أن 90 في المائة من الأراضي العراقية لما تستكشف بعد، فإن العراق قادر ببساطة على أن يلعب دوراً كبيراً في مجال ضمان أمن الطاقة بالنسبة لأمريكا”.

ويضيف محللون أوروبيون آخرون إلى هذا أن واشنطن بوجودها في قلب منطقة الخليج، سيكون في وسعها الإمساك بكل صنابير البترول الشرق أوسطي، والتحكّم بأسعاره، وربما أيضاً تدمير منظمة “أوبك” عبر سحب العراق منها.

لكن هنا ثمة سؤال ملح: ألا تحتاج الولايات المتحدة إلى تثبيت الاستقرار في العراق ل “التمتع” بأمنها النفطي فيه؟

بلى. لكن الولايات المتحدة لا تتحرك وفق الرغبات بل الوقائع. وهذه الأخيرة تشير إلى أن ثورة العراق على السيطرة الأمريكية قد تستمر ما بين 5 إلى 15 سنة، الأمر الذي دفع واشنطن إلى تغيير تكتيكاتها: بدل قمع المقاومة العراقية بنفسها، ستحيل الأمر إلى العراقيين أنفسهم.

كيف؟

ببساطة، عبر الانسحاب من المدن العراقية وإقامة قواعد عسكرية تشرف على حقول النفط الرئيسية (وهذا على أي حال أول ما فعلته القوات الأمريكية حين بدأت الغزو)، ثم ترك العراقيين يتقاتلون على حصص كل منهم في النفط والسلطة.

بالتأكيد ثمة مخاطر في هذا السيناريو، خاصة مع احتمال دخول القوى الإقليمية الرئيسية (إيران، تركيا، السعودية، سوريا، الأردن) على خط الحرب الأهلية العراقية لاقتطاع جزء من الحلوى العراقية. بيد أن هذا يبقى أقل ضرراً بكثير من الوضع الاستنزافي الراهن الذي تتعرض له القوات الأمريكية. كما أن هذا الضرر يتقلص إلى حد كبير إذا ما نجحت واشنطن في ضمان استمرار السيطرة على النفط وضخه واستكشاف حقول جديدة منه.

خطة بارعة؟

يبدو أن الأمر كذلك. ويبدو أيضاً أن واشنطن ستطبق في العراق ما سبق أن فعلته في الجزائر، حين شجعت على إشعال الحرب الأهلية فيها في حقبة التسعينات، ثم نجحت في الوقت نفسه في مواصلة إنتاج واستخراج وتسويق النفط الجزائري. إنه النموذج الكوري الجنوبي ذاته، ولكن بلباس جزائري!

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)