كان حزيران في ذكراه السوداء الثانية يصول ويجول في تقاويمنا، باعتباره بطل الهزيمة الثانية بعد نكبة مايو/أيار عام ،1948 لكن تعاقب الانكسارات والكوارث القومية حوّل حزيران/يونيو من بطل في المسرحية إلى كومبارس يقعي وراء الكواليس بانتظار مخرج يناديه مرة في العام.

أربعون “حزيراناً” والحرب التي اندلعت لم تضع أوزارها، فالأرض المحتلة أوغل فيها الاحتلال أكثر، والخلافات البينية تحولت إلى حروب عربية عربية، وما كان تجزيئاً وتشظية تحول إلى تذرر إثني، والحبل على الجرار.

إن رقم الأربعين في موروثنا الشعبي متعدد الدلالات، فهو للتأبين بقدر ما هو عدد اللصوص في حكاية علي بابا. وتقول أدبياتنا إن سن الأربعين هو سن الرشد الثاني، أي سن الحكمة لا البلوغ فقط بمعناه العضوي، فلماذا بقي حزيران طيلة أربعين عاماً يحبو ويتعثر؟ ولماذا بقي يلثغ بالأيام الستة ولم يتعلم الكلام بعد؟

إن العرب الآن يحتفلون بذكرى حزيران الأربعين على طريقتهم، من مخيم نهر البارد إلى الساحات المشتعلة في غزة، ومن أطلال البصرة إلى حمامات الدم في بغداد وشقيقاتها العراقيات.

قبل أربعة عقود كنا بحزيران واحد، وأيار واحد.. لكننا الآن نستعير أصابع الآخرين كي نحصي “حزيراناتنا” لأن أصابعنا لا تكفي.

لقد نافس نيسان/إبريل العراقي أيار/مايو الفلسطيني بعد عدة عقود، ونسخت الاحتلالات بعضها، مثلما تراكمت النصال على النصال، ولم يعد العربي حفيد أبي الطيب يعرف على أي جانبيه يميل، ما دام وراء الروم روم.. ورومٌ ورومٌ إلى ما لا نهاية.

قبل أربعين عاماً ظن المتفائلون أن شمس حزيران الساطعة ستذيب الجليد الذي تراكم في القلب، ومنهم من ادعى أن الضارة نافعة، وأن الهزيمة، إذا قرئت كما يجب، تتحول إلى رافعة قومية، لكن الأيام والأعوام مرّت على غير ما اشتهى الحالمون، ولم تكن الأربعون عاماً سوى يوم سابع في تلك السداسية الحزيرانية.

سهل على الجميع أن يحولوا الذكرى إلى بيت عزاء، وسهل أيضاً على من تتلمذوا على الغراب أن يجربوا نعيقهم مرة في كل عام فوق هذه الخرائب.

لكن الأصعب دائماً هو البحث عن نقطة بيضاء في النسيج الأسود، وعن شحرور يغني وسط سحابة الغربان.

لقد استولد حزيران كالقابلة التاريخية الفدائي، والمثقف الثوري، وكل خلايا المناعة في الدورة القومية، لكن الإجهاض كان بالمرصاد، ويبدو أن القابلة أيضاً تآمرت على المولود فاستبدلته رغم أنه حمل الاسم ذاته.

ما من ذاكرة أمة تخلو من حزيران وما يشبهه من الشهور القاسية، لكن المهزومين لم يتوقفوا عن النمو عند هزيمتهم، ولم يتعاملوا معها كقضاء وقدر، بل حولوها إلى لقاح باسل ضد تكرار الداء.

إن هزيمة يلحقها بنا عدو هي أهون من هزائم نلحقها بأنفسنا، لأنها من صنع أيدينا، وهذا ما يحدث الآن، فحزيران الجديد القاتل والقتيل فيه من السلالة ذاتها، والأمر بالقتل يصدر بالعربية لا بالعبرية.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)